وأيضا فالصبر على ما يحصل باختيار العبد ، كصبر الداعي إلى الله والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر على ما يصيبه في ذلك من المكروه ، ولو تركه لم يصبه ، وصبر المطيع والممتنع عن المعصية إذا أوذي حتى يعصي ، فصبر على الأذى ولم يعص ، ، كالمرض وموت الأقارب ، والجائحة التي تذهب بالمال ، فإن هذا إن يصبر وإلا فلا فائدة له في الجزع ، وهو لم يمكنه دفعها ، ولهذا يشترك الناس في هذه المصائب ، المؤمن والكافر . وأما تلك فإنما حصلت بسبب إيمانه وطاعته لله ورسوله ، فعلى ذلك أوذي ، فبإرادته واختياره حصل الأمر المكروه الذي يريد أن يصبر عليه . فهذا أزكى نفسا وأعظم محبة وصبرا على طاعته ، وأعظم تركا لمحبوباته وفعلا لمكروهاته لله . ولهذا كان من [ ص: 229 ] كمل بهذه الطريق أكمل ممن كمل بتلك من الأنبياء والصالحين ، فإن هذا حصل المقصود باختياره ، وذلك ابتلاه الله بما يحصل المقصود بغير اختياره . وصبر المؤمن على مفارقة محبوبه باختياره وعلى احتمال المكروه باختياره هذا الصبر أفضل من الصبر على المصائب التي لا حيلة له في دفعها
وللنوعين أمثلة ، مثل صبر يوسف على فراق أبيه وأهله ، واسترقاق الغير له ، وصبر الاختيار مثل صبره على الحبس لئلا يفعل الفاحشة ، فهذا الثاني كان أفضل له ، ولهذا نقل من الأول إليه ، فلما كمل بالثاني مكنه الله . فصبر المصيبة
ومثال الأول صبر يعقوب عن ابنه يوسف ، ومثال الثاني صبر الخليل على أن يذبح ابنه ، فإن الخليل كان يذبح بكره ، لم يكن له غيره ، وأراد أن يذبحه باختياره ، فأسلم الأب والابن لله . وهذا أعظم من حال إسرائيل ، فإنه فرق بينه وبين يوسف بغير اختياره ، وصبر حتى رده الله عليه . والله تعالى يبتلي كل واحد بحسب حاله ، فالخليل أعظم وأفضل ، فاحتمل هذا البلاء الذي لا يحتمله غيره لو ابتلي به ، بخلاف صبر المصيبة ، فإن الصبر عليه موجود كثيرا . وكذلك صبر نوح وهود وصالح وموسى على تكذيب الكفار وأذاهم لهم هو من أعظم النوعين ، وكذلك صبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن آمن معه على أذى الكفار لهم بأنواع الأذى ، ثم صبرهم لما هاجروا على الجهاد .
هذا الصبر أفضل النوعين ، فلا جرم كان أهله أفضل الخلق عند الله ، وهذا لا يحتمله كثير من أولياء الله ، فيبتليه الله بمصائب يصبر عليها ليبلغ [ ص: 230 ] بذلك منزلته ، مثل ما ابتلي ، وبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة على بلوى تصيبه . فبهذه البلوى نال منزلته ، إذ لم يكن معه من القوة ما يصبر صبر عثمان أبي بكر . وعمر كان أصبر من وأبو بكر وأعظم يقينا ، فلهذا لم يحتج إلى مثل الشهادة التي حصلت عمر وكذلك لعمر ، ثالث الشهداء ، أكمل الله بالشهادة أمره ، وكذلك علي وغيره ، كانت المصائب والشهادة في حقهم وحق أمثالهم مما أنعم الله به عليهم ، وبلغهم به من المنازل التي تناسب حالهم ، إذ كان الحسين الحسن لم يحصل لهما من الابتلاء ما حصل لأبيهما ، لأنهما ربيا في عز الإسلام ، فابتليا بما رفع الله به درجاتهم بحسب حالهم . والحسين
وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا وسبح بحمد ربك حين تقوم ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم [الطور :48 - 49] . وقال : فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين [القلم :48 - 50] . وقال : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [الأحقاف :35] . فأمره أن يصبر الصبر الاختياري كما صبر أولو العزم ، فيصبر لحكم ربه : الحكم الأمري بامتثال أمر ربه في تبليغ الرسالة ودعوة الخلق وبيان ما بعث به ، والحكم المقدر بأن يصبر على تكذيب المكذبين وافترائهم عليه وعداوتهم له . قال [ ص: 231 ] تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين [الفرقان :31] ، وقال : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا [الأنعام :112] ، فلا يجزع ولا يغاضب ، فيحتاج أن يبتلى بما يصبر عليه صبر المصائب . فإن ذا النون : ذهب مغاضبا [الأنبياء :87] ، و أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون [الصافات :40 - 44] . والمسبح يتناول من كان مسبحا قبل ذلك ، ومن كان مسبحا في بطن الحوت . فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين [الصافات :145 - 148] . وهذا من أعظم البلوى ، وهو صلى الله عليه وسلم صبر على ما أصابه لما ألقي في بطن الحوت ، ودعا ربه واعترف بذنبه فقال : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [الأنبياء :87] ، قال الله تعالى : فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين [الأنبياء :88] . وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يونس بن متى » ، و «من قال : أنا خير من يونس بن متى فقد كذب » . «ما ينبغي لعبد أن يقول : أنا خير من