وحقيقة الأمر أن هذه الأمور فيها من النعم باللذة والسرور في الدنيا ما لا نزاع فيه ، ولهذا قال تعالى : ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون [غافر :75] ، وقال : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا [ ص: 242 ] واستمتعتم بها [الأحقاف :20] ، وقال : وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا [المزمل :11] ، وقال : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون [الحجر :3] ، وقال : وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [آل عمران :185] .
وهذا أمر محسوس ، لكن الكلام في أمرين :
أحدهما : هل هي نعمة أم لا ؟
والثاني : أن جنس تنعم المؤمن في الدنيا بالإيمان وما يتبعه هل هو مثل تنعم الكافر أو دونه أو فوقه ؟ وهذه المسألة المتقدمة .
فأما الأول فيقال : اللذات في أنفسها ليست نفس فعل العبد ، بل قد تحدث عن فعله مع سبب آخر ، كسائر المتولدات التي يخلقها الله تعالى بأسباب ، منها فعل العبد . لكن هذه اللذات تارة تكون بمعصية من ترك مأمور أو فعل محظور ، كاللذة الحاصلة بالزنا وتوابعه ، وبظلم الناس ، وبالشرك ، والقول على الله بغير علم . فهنا المعصية هي سبب العذاب الزائد على لذة العقل ، لكن ألم العذاب قد يتقدم ويتأخر ، وهي تشبه أكل الطعام الطيب ، الذي فيه من السموم ما يمرض أو يقتل . ثم ذلك العذاب يمكن دفعه بالتوبة وفعل حسنات أخر .
لكن يقال : تلك اللذة الحاصلة بالمعصية لا يكون مقاوما لها ما في التوبة عنها والأعمال الصالحة من المشقة والألم ، ولهذا قيل : ترك [ ص: 243 ] الذنب أيسر من التماس التوبة ، وقيل : رب شهوة ساعة أورثت حزنا طويلا . ولكن ، فيكون ألم التائب أشد من ألم التارك إذا استويا من جميع الوجوه ، وثوابه أكثر . وكذلك ما يكفر الله به الخطايا من المصائب مرارته تزيد على حلاوة المعاصي . وتارة تكون اللذات بغير معصية من العبد ، لكن عليه أن يطيع الله فيها فيعصيه فيها بترك مأموره وفعل محظوره فيما يؤتاه العبد من المال والسلطان ، ومن المآكل والمناكح التي ليست بمحرمة . فعل التوبة والحسنات الماحية قد توجب من الثواب أعظم من ثواب ترك الذنب أولا