وأما قوله تعالى : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [الحج :46] ، فإنه سبحانه لما دعاهم إلى التفكر والتعبير وسمع أخبار من مضى من الأمم ، وكيف أهلكهم الله تعالى بتكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره ، فقال تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها [الحج :46] .
قال ابن قتيبة : وهل شيء أبلغ في العظة والعبرة من هذه الآية ؛ لأن الله تعالى أراد أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار قوم أهلكهم الله تعالى بالكفر والعتو ، فيروا بيوتا خاوية قد سقطت على عروشها ، وبئرا يشرب أهلها منها قد عطلت ، وقصرا بناه ملكهم بالشيد قد خلا من السكن وتداعى بالخراب ، فيتعظوا بذلك ويخافوا من عقوبة الله التي نزلت بهم .
ثم ذكر تعالى أن أبصارهم الظاهرة لم تعم عن الذكر والرؤية ، وإنما عميت قلوبهم التي في صدورهم .
قيل : لما كانت العين قد يعنى بها القلب في قوله تعالى : الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري [الكهف :101] ، جاز أن يعنى بالقلب العين ، فإن الشيء إذا أشبه الشيء وأطلق عليه اسمه ، جاز إطلاق اسم مشبهه عليه [ ص: 342 ] أيضا ، لا سيما مع شدة اتصال العين بالقلب ، فقيد القلوب بذكر محلها دفعا لتوهم إرادة غيرها .
وأحسن من هذا أن يقال : إنه ذكر محل العمى الحقيقي الذي هو أولى باسم العمى من عمى البصر ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : » ، أي : هذا أولى بأن يكون شديدا منه . «ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب
وقوله : » ، أي : هذا أولى باسم المسكين من الذي تسمونه أنتم مسكينا ، ونظائر ذلك كثيرة . «ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان ، إنما المسكين الذي لا يجد ما يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه
أي : فعمى القلب هو العمى الحقيقي ، لا عمى البصر ، فأعمى القلب أولى أن يكون أعمى من أعمى العين ، فنبه سبحانه بقوله : التي في الصدور ، على أن العمى هو العمى الباطن في العضو الذي محله الصدر ، لا العمى الظاهر في العضو الذي محله الوجه . والله أعلم بما أراد من كلامه .