وأما قوله سبحانه وتعالى : وكفى بالله وكيلا [النساء :81] ، وكفى بالله حسيبا [النساء :6] ونظائره ، فهذا ليس بزائد ، بل هو متضمن فائدة بديعة ، وذلك أن العرب تقول : كفيته الشيء ، فعل متعد ، ولم يجئ عنهم : كفيت به ، ويقولون : اكتفيت به ، فهذا لازم ، ولم يقولوا : اكتفيته .
ثم قالوا : كفى بزيد رجلا ، فتضمن معنى فعلين ، أي : كفى زيدا ما يشتمل عليه ويحوطه فاكتفى به ، فأتى بكفى المتعدي ، وأتى بالباء الدالة على الفعل اللازم ، فأفاد هذا التركيب معنى الفعلين معا ، أي : كفى واكتفى ، فاكتفى به أحدهما بصريحه والآخر بالحرف الدال عليه ؛ ولهذا المعنى انتصب وكيلا ، وحسيبا ، وهاديا ، ونصيرا ، على التمييز أو الحال ، والتمييز أحسن ، وهذا من أسرار لغتهم التي لا يهتدي [إليها] إلا كل روحاني الذهن ، لطيف الفهم ، سلس القياد ، يفهم المسائل [على تعدد أنواعها] في قوالب ألفاظها .
ونظير هذا : عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا [الإنسان :6] ، في تشبيه معنى فعلين ؛ أحدهما : بصريحه ، والثاني : بحرفه المقتضي له ، فكأنه في معنى يشرب ويروي بها ، وهذا كثير في القرآن والكلام الفصيح .
وأما قوله تعالى : وما من إله إلا الله [آل عمران :62] ، وقوله تعالى : [ ص: 349 ]
هل من خالق غير الله [فاطر :3] ، ففيه فائدة ، وهي استغراق النفي ؛ لأن حرف «من » للجنس ، فإذا سلط النفي عليه مع مجروره أفاد استغراق النفي للجنس صريحا ؛ ولهذا لا يجوز أن يقابله بثبوت أكثر من واحد .
فلو قلت : [ما] من درهم عندي بل درهمان ، كنت [مبطلا] لاغيا .
ولو قلت : ما عندي درهم بل دراهم ، لم يكن ذلك محالا وكان كلاما عربيا .
فبدخول «من » يتعين استغراق النفي صريحا فلا يحتمل تأويلا ، وبدونها غايته أن يكون ظاهرا لا يناقضه إثبات المتعدد ، ولا ريب أن هذه فائدة جليلة زائدة على النفي الخالي من هذا الحرف .
وأيضا فقد قال سيبويه : ما من رجل في الدار ، كأنه جواب لقول من قال : هل من رجل في الدار ؟ فدخول «من » هنا يتطابق الجواب والسؤال ، والله [سبحانه] وتعالى أعلم .