وأما قوله سبحانه وتعالى : وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين [الروم :49] ، فهي من أشكل ما أورد ، ومما أعضل على الناس فهمها .
فقال كثير من أهل الإعراب والتفسير : إنه على التكرير المحض والتأكيد . [ ص: 355 ]
قال : « الزمخشري من قبله من باب التكرير والتأكيد ، كقوله تعالى : فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين [الحشر :17] ، ومعنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد ، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم ، فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك » .
هذا كلامه ، وقد اشتمل على دعويين باطلتين :
إحداهما : قوله : إنه من باب التكرير .
والثانية : تمثيله ذلك بقوله سبحانه وتعالى : فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها .
فإن «في » الأولى هي على حد قولك : أزيد في الدار ؟ أي : حاصل أو كائن .
وأما «في » [الثانية] فمعمولة للخلود ، وهو معنى آخر غير معنى مجرد الكون ، فلما اختلف العاملان ذكر الحرفان ، فلو اقتصر على أحدهما كان من باب الحذف لدلالة الآخر عليه ، ومثل هذا لا يقال له تكرار .
ونظير هذا أن تقول : زيد في الدار نائم فيها ، أو ساكن فيها ، ونحوه مما هو جملتان مفيدتان لمعنيين . [ ص: 356 ]
وأما قوله تعالى : من قبل أن ينزل عليهم من قبله ، فليس من التكرار ، بل تحته معنى دقيق ، والمعنى فيه : وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم الودق من قبل هذا النزول لمبلسين ، فهاهنا قبليتان : قبلية لنزوله مطلقا ، وقبلية لذلك النزول المعين أن لا يكون متقدما على ذلك الوقت ، فيئسوا قبل نزوله يأسين : يأسا لعدمه ، ويأسا لتأخره عن وقته ، فقبل الأولى ظرف لليأس ، وقبل الثانية ظرف للمجيء والإنزال .
ففي هذه الآية ظرفان معمولان وفعلان مختلفان عاملان فيهما ، وهما الإنزال والإبلاس ، فأحد الظرفين متعلق بالإبلاس ، والثاني متعلق بالنزول .
وتمثيل هذا أن تقول إذا كنت مؤملا للعطاء من شخص في وقت ، فتأخر عن ذلك الوقت ، ثم أتاك به : قد كنت يائسا من قبل أن تجيئني بهذا من قبل ، أي : أيست من قبل مجيئك بهذا قبل هذا الوقت .
فقبل الأولى ظرف لليأس ، وقبل الثانية ظرف للوقت ، كما أنك لو وضعت موضع قبل الثانية غيرها وجدتها غير متكرر ، فإذا قلت : قد كنت آيسا قبل أن تأتيني بهذا أمس ، أكان تكرارا ؟ فمن قبله كان كأمس . ولو قلت : وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم قبل وقت نزوله لمبلسين ، لما كان تكرارا ؛ لاختلاف الآية . والله سبحانه وتعالى أعلم .