فإن قيل : ؟ فعنه ثلاثة أجوبة : [كيف] كشف العذاب عن قوم يونس بعد إتيانه إليهم ، ولم يكشف عن فرعون حين آمن
أحدها : أن ذلك كان خاصا لهم ، كما ذكرنا في أول الآية .
والثاني : أن فرعون باشره العذاب ، وهؤلاء دنا منهم ولم يباشرهم ، فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية ، فأما الذي يعاين فلا توبة له . ذكره . الزجاج
والثالث : أن الله علم فيهم صدق النيات ، بخلاف من تقدمهم من [ ص: 377 ] الهالكين . ذكره . ابن الأنباري
قلت : هذا القول معناه : أن هؤلاء تابوا ، وغيرهم لم يتب ، ولو تاب قبلت توبته . وهذا إنما يكون قبل المعاينة .
وقد ذكر في الكلام هل هو نفي أو تحضيض قولين ، فقال :
وفي لولا قولان :
أحدهما : أنها بمعنى لم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها -أي قبل منها- إلا قوم يونس . قاله . ابن عباس
وقال قتادة : لم يكن هذا لأمة آمنت عند نزول العذاب إلا لقوم يونس .
والثاني : أنها بمعنى هلا . قاله أبو عبيدة ، وابن قتيبة ، والزجاج . قال : المعنى : فهلا كانت قرية آمنت في وقت ينفعها إيمانها إلا قوم يونس . و الزجاج إلا ههنا استثناء ليس من الأول ، كأنه قال : لكن قوم يونس . [ ص: 378 ]
وقال : نصب القوم على الانقطاع مما قبله ، ألا ترى أن ما بعد الفراء إلا في الجحد يتبع ما قبلها . ما قام أحد إلا أخوك ، فإذا قلت : ما فيها أحد إلا كلبا أو حمارا نصبت ؛ لانقطاعهم من الجنس . كذلك كان قوم يونس منقطعين من غيرهم من أمم الأنبياء ، ولو كان الاستثناء وقع على طائفة منهم لكان رفعا .
قلت : هذا قول أئمة العربية ، وهذا مما يعلم بالاضطرار من لغة العرب التي بها نزل القرآن . ولولا تارة يليها الاسم ، كقوله ولولا فضل الله عليكم ورحمته ، فيكون حرف امتناع . وتارة يليها الفعل ، كقوله : لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء . فيكون حرف تحضيض ، وهو يتضمن النفي . فالنفي لازم لها ، لا أنها بمعنى «لم تكن » .
والمفسرون من السلف يفسرون المعنى ، لا يتكلمون في دلالة العربية ؛ لأن العربية عادتهم وطبعهم ، لا يحتاجون فيها إلى مقاييس النحاة . وابن عباس ذكر أن الآية دلت على أنه لم تكن أمة آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس . وهذا حق ، والاستثناء المنقطع يدل عليه . لم يقل : إنها بمعنى : لم تكن . وكذا قتادة ظن أن المراد أن الإيمان نفعهم ولم ينفع غيرهم . وليس كذلك ، بل غيرهم لم يؤمن إيمانا ينفعه ، وهؤلاء آمنوا إيمانا ينفعهم ، كانوا صادقين وآمنوا قبل حضور الموت ، وغيرهم [ ص: 379 ] إما أن يكون كاذبا في إيمانه كقوم فرعون ، وإما أن يؤمن بعد حضور الموت ، كالذين قال تعالى فيهم : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا [غافر :85] ، والذين قال فيهم : فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين [الأعراف :5] ، وقوله : فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين [الأنبياء :12 - 15] ، فهؤلاء لم يؤمنوا . وكذلك قوله : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [الأنعام :44] ، فهؤلاء إما أنهم لم يتوبوا أو حضر الموت الذي لا يندفع .
وقد ذكر في الآية قولين آخرين فاسدين : ابن الأنباري
أحدهما : أن إلا بمعنى الواو ، فالمعنى : وقوم يونس لما آمنوا فعلنا بهم كذا وكذا . قال : وهذا مروي عن ، أبي عبيدة والفراء ينكره .
والثاني : أن الاستثناء من الآية التي قبلها ، تقديره : حتى يروا العذاب الأليم إلا قوم يونس . والاستثناء على هذا متصل غير منقطع . [ ص: 380 ]
قلت : هذا في غاية الفساد ، فإن ذاك من كلام موسى ، قال : ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم [يونس :88] ، وهو دعاء على آل فرعون ، كما قال : ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا [يونس :88] . ولم يستثن موسى من هؤلاء أحدا ، وقوم يونس ليسوا من قوم فرعون ، فأين هذا من هذا ؟
والأول أيضا في غاية الفساد ، فإن جعل إلا المخرجة بمعنى الواو الجامعة استعمال للفظ في نقيض معناه ، وهذا فاسد . وأبو عبيدة له من هذا الجنس أقوال فاسدة ، وهذا مما يعلم أئمة النحاة أنه منكر ، فالبصريون كلهم ينكرون ذلك ، وقد أنكره وغيره من الكوفيين . وقد ذكر نحو هذا في قوله : الفراء لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم [البقرة :150] ، وهو فاسد من وجوه متعددة ، والله أعلم .