فصل
إذا عرف هذا، فالكلام المبتدع المذموم هو الذي ليس بمشروع ولا مسنون، وليس بحق ولا حسن، وهذان الوصفان متلازمان، فإن كل مشروع مسنون فهو حق حسن، وكل ما هو حق حسن فهو مشروع مسنون، وكذلك بالعكس.
وذلك أن الكلام نوعان: إنشاء، وإخبار.
فأما الإنشاء، فمثل: الأمر والنهي، فكل أمر ونهي لا يكون موافقا لأمر الله تعالى ونهيه فهو ضلال وغي.
وأما الإخبار، وهو الغالب على فن الكلام المتنازع فيه، فإنه إخبار عن حقائق الأمور الموجودة والمعدومة، كالإخبار عن الله تعالى وصفاته [ ص: 11 ] وأفعاله، وعن المعاد وما يكون بعد الموت، وعما مضى قبلنا، وما سيكون بعدنا.
والإخبار عن هذه الأمور إن كان مطلوبا فهو المسائل والأحكام، وإن كان طريقا إلى المطلوب فهو الوسائل والأدلة.
فالكلام يشتمل على هذين الصنفين: المسائل والدلائل، والذم والنهي واقع في هذين الجنسين:
* أما المسائل، وهو من الكلام المذموم المنهي عنه، سواء كانت المسألة نفيا أو إثباتا، مثل: إنكار صفات الله أو بعضها الذي جاء به الكتاب والسنة، وإنكار قدر الله وقدرته ومشيئته، أو إنكار محبته ورضاه وخلته وتكليمه وعلوه على عرشه، أو إنكار فتنة القبر وعذابه ونعيمه، والحوض والميزان والشفاعة والصراط ونحو ذلك من عقود أهل السنة التي أثبتتها نصوص الكتاب والسنة وآثار السلف. فكل جواب مسألة خالف الكتاب والسنة وما كان عليه السلف فهو بدعة وضلالة،
ثم المنكر لذلك أو بعضه هو مفتر، ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يسمونهم: «أهل الفرى»، ويتأولون فيهم قوله تعالى: إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين [ ص: 12 ] [الأعراف: 152]، قال رضي الله عنه: «هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة». أبو قلابة
وهو مفتر من وجهين:
أحدهما: نفي ما أثبته الكتاب والسنة، أو إثبات ما نفاه.
والثاني: تحريف النصوص بما يوافق ظنه وهواه، ودعواه أن ذلك هو معناها.
فهو مخبر عن الأمور بخلاف ما هي عليه، ومخبر عن النصوص بخلاف ما دلت عليه، فافترى في الوجودين: العيني، والعلمي.
* وأما الدلائل، فإنهم كثيرا ما يستدلون ويحتجون على الحق الذي جاء به الكتاب والسنة بحجج محدثة باطلة، ثم تلك توقعهم في البدع المخالفة للكتاب والسنة، بمنزلة الذي يجاهد الكفار بقتال محرم في الشريعة، فيزيل باطلا بباطل.
ولهذا كان السلف إذا قيل: فلان يرد على فلان، قالوا: بكتاب وسنة؟ فإن قال: «نعم» صوبوه، وإن قال: «لا» قالوا: رد بدعة ببدعة. [ ص: 13 ]
وكثيرا مما أوقعهم -أو أكثر ما أوقعهم- في البدع المخالفة للكتاب والسنة احتجاجهم لنوع من الحق بحجة مبتدعة اعتقدوا أنها لا تسلم من المناقضة والمعارضة إلا بما التزموه لتصحيحها من اللوازم التي قد يخالفون بها الكتاب والسنة.
وكان مبدأ ذلك تكلمهم في «الجسم، والجوهر، والعرض»، وظنهم أن بهذا التقسيم والترتيب يثبت لهم وجود الصانع، وحدوث العالم، ونحو ذلك.
فلم ينكر السلف مجرد إطلاق لفظ له معنى صحيح، كما يعتقده قوم من الناس من أهل الكلام وغيرهم; فإنا عند الحاجة إلى الخطاب نخاطب الرجل بالفارسية والرومية والتركية.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما كتب إلى أهل اليمن، كتب إليهم بلغتهم التي يتخاطبون بها، وليست هي لغة قريش.
ولما قدمت أم خالد من أرض الحبشة، وكانت قد سمعت لغتهم، قال لها لما أعطاها الخميصة: والسنا بلسان «يا أم خالد، هذا سنا»، الحبشة: الحسن، أراد مخاطبتها بذلك إفهاما لها وتطييبا لنفسها.
ولا بأس أن إذا لم يحصل المقصود بخطابهم بالعربية. [ ص: 14 ] يخاطب المسلم كل قوم بلغتهم التي يعرفون; لقصد إفهامهم،
لكن كره السلف والأئمة، كمالك والشافعي التخاطب بغير العربية لغير حاجة; لأنها شعار أهل القرآن والإسلام، وبها يعرفون ما أمروا بمعرفته من أمر دينهم، ولمعاني أخر ذكرتها في «اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم». والإمام أحمد
فلم تكن كراهة السلف لمجرد اللفظ.
ولا كرهوا أيضا معنى صحيحا يكون دليلا على حق، كما يتوهمه أيضا هؤلاء، ويقولون: «إن كره اللفظ فهو اصطلاحي كاصطلاحات سائر العلماء من الفقهاء والنحاة، وإن كره المعنى فلا يريد إلا الدلالة على أصول الدين، مثل: ثبوت الصانع، ووحدانيته، وصحة الرسالة والنبوة»; فإن هذا المعنى لم يكرهه السلف، ولا يكرهه مؤمن عليم.
كيف والقرآن من أوله إلى آخره إنما هو في تقرير هذه المعاني التي هي أعلام علوم الدين، وأشرف مقاصد الرسل؟!
وقد صرف الله في القرآن الدلالات بوجوه المقاييس، وضرب الأمثال، وأنواع القصص، وغير ذلك مما هو دليل ومرشد إلى الإيمان بهذه الأصول. [ ص: 15 ]
وكيف وعلم الإيمان بهذه الأصول هو أفضل علم في الدين، والكاملون فيه هم خلاصة الأمة؟!
وبمثله برز السابقون والمقربون، وقيل في رضي الله عنه صديق الأمة: «ما سبقهم الصديق بفضل صلاة ولا صيام، ولكن بشيء وقر في قلبه». أبو بكر
وقد مدح الله أهل العلم به في غير موضع، وقال فيهم: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم [آل عمران: 18]، وقال فيهم: ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي [سبأ: 6]، إلى غير ذلك مما ليس هذا موضعه.
فكيف يكره السلف رضي الله عنهم معان إما هي واجبة وإما مستحبة؟!
وكيف وهؤلاء السلف لهم من الدلائل والبراهين في مسائل السنة والرد على أهل البدع ما ليس هو لمن ذموه من أهل الكلام؟! وإن أنكروا الطرق والدلائل المحدثة المبتدعة; لما فيها من الفساد والتناقض، وأنها من جنس الكذب والخطأ. [ ص: 16 ]
فتدبر هذا; فإنه فرقان يفرق الله به بين الحق والباطل.
وإنما أضرب لك أمثلة من أدلتهم وحججهم الفاسدة، كما ضربت لك أمثلة من مسائلهم الفاسدة.
وذلك أن أهل الكلام من أهل قبلتنا يأخذون كثيرا في الرد على من خالف المسلمين من المشركين والمجرمين واليهود والنصارى، ويأخذ كثير منهم في الرد على من خالف السنة في بعض المواضع، وإن كان الراد قد يخالف هو السنة في موضع آخر.
فيريدون أن يثبتوا وحدانية الصانع وكماله، ويثبتون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويسمون هذه المطالب «العقليات»; لاعتقادهم أنها لا تثبت إلا بالعقل الذي ادعوه وكانوا مختلفين في طرقه!
وقد يعتقدون أن الكتاب والسنة لم تبين أدلة هذه المطالب الشريفة! والقرآن مملوء منها.
ولم يعلموا أن كون العقل قد يعلم صحتها لا يمنع أن يكون الشرع [ ص: 17 ] دل عليها وأرشد إليها، فهي شرعية عقلية، بل ما يبينه الكتاب والسنة من أدلة هذه المطالب فوق ما في قوى البشر، ولم يأت أهل الفلسفة والكلام من ذلك إلا بحق قليل مخلوط بباطل كثير، فلبسوا الحق بالباطل.
آخر ما وجد من ذلك