الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
* الأصل السادس: أن الأعمال الصالحة كلها من أعظم نعم الله على عبده المؤمن، وهي مستوجبة لأعظم الشكر؛ إذ هي من الله، كما قال تعالى: بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان [الحجرات: 17]. [ ص: 421 ]

وشهود هذا للقلب يدفع عنه العجب بها، والفخر، ونحو ذلك مما يحصل بإضافة ذلك إلى النفس.

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أوحي إلي أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد».

وقد قال تعالى: إن الله لا يحب كل مختال فخور [لقمان: 18].

والناس في هذا المقام أربع طبقات:

* فخير الناس: أهل الإيمان المحض، الذين يشهدون نعمة الله في الطاعة، ويشهدون ذنوبهم في المعصية، كما في الحديث الصحيح الإلهي: «يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه».

* وشر الناس: الذين يشهدون أنفسهم فاعلة للطاعات، ويشهدون المعاصي أنها من القدر، فيضيفونها إلى الله، كما قال بعض العلماء: «أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به».

والأولون إذا عملوا طاعة لله عز وجل، أو أحسنوا إلى أحد من خلقه، [ ص: 422 ] شكروا الله الذي أعانهم على ذلك ويسرهم لليسرى، فلم يروا لهم أمرا يمنون به على الخلق، ولا يدلون به على الخالق؛ إذ كان ذلك من نعمة الله عليهم وعلى الناس.

وأما الآخرون، فهم إن فعلوا مع أحد خيرا منوا به عليه، وآذوه، وربما اعتدوا عليه وظلموه. وإن فعلوا فاحشة قالوا:


ألقاه في البحر مكتوفا وقال له: إياك إياك أن تبتل بالماء

يحتجون على ربهم بحجة داحضة عند ربهم، تغلظ ذنوبهم، وتزيدهم شرا، من جنس احتجاج المشركين الذي قالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء [الأنعام: 148].

وإن عمل أحد معهم ما يكرهونه لم يضيفوا ذلك إلا إليه، وقد يكون عادلا عاملا بحق، ولا يشهدون القدر في هذا الموضع، مع أن ذلك المؤذي إن كان ظالما فالذي سلطه عليهم ليس بظالم، فكيف إذا كان هو عادلا فيهم، مطيعا للشرع؟!

والرب عادل في خلقه وأمره، منزه عن الظلم، كما في الحديث الصحيح الإلهي: «يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا [ ص: 423 ] تظالموا».

فهذا الضرب لا هم مع قدر ولا شرع، بل هم مع هواهم، يمدحون من القدر والشرع ما وافق هواهم، ويذمون ما خالف هواهم، وهؤلاء شرار الخلق، ومن سلك طريقتهم فطردها قادته إلى الانسلاخ من دين الإسلام، بل إلى ما هو شر من حال اليهود والنصارى.

* وأما الطبقة الثالثة: فهم الذين ينظرون إلى الشرع لهم وعليهم، ولا ينظرون إلى القدر، يتحرون فعل الحسنات وترك السيئات، لكن يضيفون هذا وهذا إلى أنفسهم، ومن آذاهم انتصفوا منه، ولم يجعلوا ذلك مما ابتلاهم الله به.

وهذا مذهب القدرية، وكثير من الناس حاله حالهم، وإن لم يكن اعتقاده اعتقادهم.

وهؤلاء مطيعون لله عز وجل في امتثال أمره، لكنهم عاصون لله في ترك الإيمان بقدره، والصبر على ما ابتلاهم به، فيفوتهم من طاعة الله التي أمرهم بها، من الإيمان بالقدر، والصبر على أذى الخلق، ما لا يعلمه إلا الله تعالى، ويقعون في أنواع من الذنوب والمعاصي بهذا السبب.

التالي السابق


الخدمات العلمية