الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا كانت الأعمال الصالحة من أعظم نعم الله، فكلما كان العمل أفضل كانت النعمة به أتم.

والجهاد سنام العمل، كما في حديث معاذ المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله». [ ص: 425 ]

فيظن أن الجهاد هو الثلاثة، وهذا إن كان محفوظا فالمراد به أن الجهاد يتضمن الثلاثة؛ فإن المجاهد لا بد أن يكون مسلما مقيما للصلاة، فمع الجهاد تحصل له الثلاثة، وإلا فحقيقة الأمر ما في الرواية المفصلة: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد».

قال الإمام أحمد: «لا يعدل الجهاد عندي شيء».

ونصوص الكتاب والسنة تدل على أنه أفضل من غيره، ولهذا قال الفقهاء: إنه أفضل ما تطوع به.

والتحقيق أنه أفضل من جميع الأعمال بعد الإيمان بالله ورسوله فإنه مكمل لمقصود الإيمان بالله ورسوله.

فإذا كان فرض عين قدم على كل ما يزاحمه من فروض الأعيان، يقدم على إيتاء الزكاة، وعلى الصيام، وعلى الحج، وعلى بر الوالدين، وعلى طاعة السيد والأب، وعلى قضاء الدين. [ ص: 426 ]

ولهذا قال الفقهاء: إذا حضر العدو بلدا وجب الجهاد على كل أحد، حتى يغزو العبد بدون إذن سيده، والولد بدون إذن والده، والمرأة بدون إذن زوجها، والغريم بدون إذن غريمه.

وأما الصلوات الخمس، فإن أمكن الجمع بينها وبين الجهاد، كما في صلاة الخوف في غير وقت القتال، فلا مزاحمة بينهما، فيجب فعلهما جميعا؛ فإن الصلاة عمود الدين، وهذا ذروة سنامه، فلا يقوم أحدهما إلا بالآخر.

وإن ازدحما، كما في وقت المسايفة، ففيه ثلاثة أقوال للفقهاء:

أحدها: أنه يجمع بينهما، فيصلي صلاة خفيفة مع قتاله. وهذا قول أكثرهم، كمالك، والشافعي، وأحمد في أشهر الروايتين عنه.

والثاني: أنه يخير بين تقديم الصلاة وتأخيرها بحسب المصلحة. وهذا هو الرواية الثانية عن أحمد، وقول طائفة من الفقهاء.

واحتج هؤلاء بما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»، فأدركتهم الصلاة في الطريق، فصلى بعضهم في الطريق، وقالوا: لم يرد منا تفويت الصلاة، وبعضهم قال: لا نصلي إلا في بني قريظة، فأخروها حتى غربت الشمس، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فلم [ ص: 427 ] يعنف واحدة من الطائفتين.

فقال هؤلاء: هذا دليل على جواز تقديمها في الوقت، وتأخيرها عنه، عند الضرورة.

والقول الثالث: أنه يؤخرها عند المسايفة إلى أن تنقضي المسايفة، ثم يصليها ولو بعد الوقت، كما هو مذهب أبي حنيفة.

واحتجوا بتأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم الأحزاب، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس، وقال: «ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس».

ومن نصر القول الأول قال: هذا منسوخ بقوله تعالى: حافظوا على الصلوات [البقرة: 238]، وأن هذه الآية نزلت بعد ذلك لما أخر صلاة العصر، ولهذا قال عقيبها: فإن خفتم فرجالا أو ركبانا .

وبهذا يجيبون عن تأخير من أخرها إلى بني قريظة، يقولون: هذا كان قبل الفتح والأمر بالمحافظة على الصلاة وقت الخوف.

وطائفة من الفقهاء أجابوا عن هذا بجواب آخر، وقالوا: إن التأخير كان باجتهادهم، فلم يعنفهم؛ لأن المجتهد المخطئ لا إثم عليه.

وكذلك يقول من قال: كان فرضهم تأخيرها، يقول: لم يذم المتقدمين، لأنهم كانوا مجتهدين. [ ص: 428 ]

فحديث بني قريظة يجيب عنه أهل القول الأول بجوابين، وأهل الثالث بجواب واحد.

وأهل القول الثاني يجيبون عن حديث الخندق بأنه يدل على الجواز، ونحن نقول به.

وأما أهل القول الثالث، فيحتجون في جواز التأخير بخبر بني قريظة، يقولون: إنما لم يذم المتقدمين، لأنهم كانوا مجتهدين مخطئين.

وأهل القول الأول يقولون: جواز التأخير منسوخ، كما دل عليه الكتاب والسنة، ولهذا كان أكثر الفقهاء عليه.

وعلى كل قول، فمصلحة الجهاد الواجب مأمور به، لا يجوز أن يفوت الجهاد المتعين لا لصلاة ولا غيرها، بل إما أن تخفف الصلاة، وإما أن تؤخر.

ولهذا قال عمر: «إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة»؛ لأن ذلك كان من باب الجهاد الواجب عليه، فلم يكن ليدعه لأجل الاشتغال بالصلاة، كحال المصلي وقت المسايفة والخوف، فإنه لا يكون كحاله عند الأمن، ولهذا قال تعالى: فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون [البقرة: 239]. [ ص: 429 ]

وقال سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة [النساء: 103]، فدل على أن الصلاة وقت الخوف لم تكن مقامة على الوجه التام؛ لأنه زاحمها في هذه الحال ما هو أوجب من إقامتها الكاملة، فكان ترك إقامتها الكاملة في هذا الوقت للجهاد الذي هو أوجب، فهو المأمور به في هذه الحال.

وقد قال تعالى في فضل الجهاد: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام إلى قوله عز وجل: إن الله عنده أجر عظيم [التوبة: 19 – 22].

وفي صحيح مسلم وغيره عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال الآخر: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر بن الخطاب، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عز وجل: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام الآية.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله، وجهاد في سبيل الله». [ ص: 430 ]

وفيهما عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد، قال: «لا أجده»، قال: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟»، فقال: من يستطيع ذلك؟ فقال أبو هريرة: إن فرس المجاهد يستن في طوله، فتكتب له حسنات.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم الذي لا يفتر من صلاة ولا قيام حتى يرجعه الله إلى أهله بما يرجعه من غنيمة أو أجر، أو يتوفاه ليدخله الجنة».

التالي السابق


الخدمات العلمية