الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

الرجاء والخوف قد يتعلقان بما بعد الموت من النعيم والعذاب، وقد يتعلقان بما يكون في الدنيا من نعيم أو عذاب. وكذلك الوعد والوعيد، يتعلقان بما بعد الموت، ويتعلقان بما في الدنيا.

ولهذا يجمع الله سبحانه بين قصص الأمم المتقدمين التي فيها عبرة وبين ذكر هذين الأمرين; فيذكر من الخوف والرجاء ما يتعلق بالدنيا، ويذكر ما في الآخرة من الثواب والعقاب، كما فعل ذلك في غير سورة.

فكل منهما قد يتعلق بفعل، مثل أن يرجو الثواب ويخاف العقاب على حسناته وسيئاته.

وقد يكون متعلقا بغير فعله، كما قال سبحانه: هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا [الرعد: 12]، فقد قيل: «خوفا للمسافر، وطمعا للمقيم». [ ص: 147 ]

وكل من الرجاء والخوف لا يجوز تعليقه إلا بالله.

وقد تقدمت آيات الخوف.

وكذلك آيات الرجاء، مثل قوله: فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له [العنكبوت: 17]; فإن ابتغاء الرزق هو من الرجاء.

وكذلك قوله: إياك نعبد وإياك نستعين [الفاتحة: 5]; فإن المستعين راج.

وكذلك قوله تعالى: فاعبده وتوكل عليه [هود: 123]، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين [المائدة: 23]، وعلى الله فليتوكل المؤمنون [آل عمران: 122]; فإن التوكل رجاء وزيادة.

وقال تعالى: ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده [فاطر: 2].

وكذلك ما ورد من أنه لا يدعى إلا الله، ولا يستعان إلا به.

وبينهما فرق من وجه آخر، كما قال علي عليه السلام: «لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن عبد إلا ذنبه». [ ص: 148 ]

فإن الرجاء بفضل الله ورحمته، وإن كان العبد قد فعل عملا صالحا، فإن العمل الصالح غايته أنه سبب للخير، ولو أقام الله سببا أكمل منه للخير لكان الواجب على العبد أن لا يرجو إلا رحمة الله، ولا يتوكل إلا عليه، لا على الأسباب المخلوقة; فإنه سبحانه خالقها وخالق العمل الصالح وسائر الأسباب، ومع هذا فليس من الأسباب ما هو موجب لا محالة إلا بمشيئة الله تعالى، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

فما من سبب يلتفت إليه العبد إلا وهو يقف على شروط ويتخلف عنه لموانع، فالعمل الصالح قد يحبط، وقد يكون له من السيئات ما يعارضه، وقد لا يكون في نفسه صالحا; لكون العبد لم يتق الله فيه.

وسائر ما ينظر إليه في أمر الرزق والنصر والهدى شأنه كذلك، فليس في الأسباب ما هو مستقل، وهي جميعها من الله وحده لا شريك له، لا قيام لها إلا بمشيئة الله وقدرته.

فـ «لا حول» وهي الحركة والتحول من حال إلى حال، و «لا قوة» على ذلك الحول إلا به، سواء في ذلك الحول والقوة الموجود في السماء، والأرض، والآدميين، والملائكة، والجن، وسائر الدواب، وغيرها. [ ص: 149 ]

قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له [سبأ: 22 – 23]، فليس لغيره ملك ولا شرك في ملك، فلا مليك غيره، ولا شريك له، وهذان الصنفان هما اللذان لهما ملك إما كامل وإما مشاع. ومن ليس له ملك فإما أن يكون عونا للمالك، كالوكلاء، والأجراء، والغلمان، والجند، والأولياء، وإما أن يكون سائلا طالبا منه; لأنه إما أن ينفع المالك فيكون له عليه حق، وإما أن لا ينفع لكن يسأله، فأخبر سبحانه أنه ليس له من المخلوقات ظهير.

وأما مسألة الشفاعة، فلم ينفها، لكن أخبر أنها لا تنفع إلا لمن أذن له في الشفاعة له، فنفعته الشفاعة، وإلا فلا.

وهذا بخلاف الشفعاء للمخلوقين، فإنهم قد يشفعون لمن لم يؤذن لهم في الشفاعة له، وقبل استئذان المشفوع إليه.

وهذا كقوله: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [البقرة: 255]، وكقوله: وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى [النجم: 26]، وقال: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [الأنبياء: 28]، وقال: ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم [يونس: 3]. [ ص: 150 ]

وهذا يوجب انقطاع تعلق القلوب بغيره، ولو كان ملكا أو نبيا، فكيف بالمشايخ، والعلماء، والملوك، والأغنياء؟! فإن غاية الراجي لهم، المعتمد عليهم، أن يقول: هم يشفعون لي. فقد أخبر أنه ما من شفيع إلا من بعد إذنه، وأنكر أن يشفع أحد إلا بإذنه، وأخبر أن الشفاعة لا تنفع إلا لمن أذن له.

ولهذا إذا جاء سيد الشفعاء يوم القيامة إلى ربه، ورآه سجد وحمده بمحامد يفتحها عليه، لا يبتدي بالشفاعة حتى يقال له: «أي محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع».

وبهذا تتبين الشفاعة المنفية يوم القيامة، كما قال تعالى: واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون [البقرة: 48]، وكذلك نظيره في الآية الأخرى [البقرة: 123]، وقال: من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة [البقرة: 254]، وقال: يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله [الانفطار: 19].

وذلك أن الإنسان في الدنيا يحصل ما ينفعه إما بمعاوضة وإما بغير معاوضة، فالمعاوضة هي البيع، والعدل من المعاوضة ; فإن عدل الشيء ما عادله من غير جنسه، وهي الفدية، كما قال: أو عدل ذلك صياما [المائدة: 95]. [ ص: 151 ]

وهذا أجود من قول من قال في قوله: «لا يقبل منه صرف ولا عدل»: إن الصرف هو التطوع، والعدل: الفريضة.

بل الصرف هو التوبة، وهو صرفه وانصرافه عن الذنب، والعدل: النظير، وهو الفداء والعوض من غير الجنس; فإن التوبة من جنس السيئة، والعدل من غير جنسها، ولهذا لما كانت التوبة تبديل السيئة بجنسها جعل الله للتائب مكان كل سيئة تاب منها حسنة، فكأنه قال: لا يقبل منه البدل، لا بجنسه وهو الصرف، ولا بغير الجنس وهو العدل.

ولهذا شرع الله ما يمحو السيئات تارة صرفا، وهو التوبة. وتارة عدلا، وهو الحسنات الماحية، كالكفارات المشروعة لذنوب معينة، أو للذنوب المطلقة، فإن الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تكفر فتنة الرجل في أهله وماله وولده، كما نطق بذلك حديث حذيفة الذي في الصحيح.

فأخبر سبحانه أنه يوم القيامة لا يحصل ما ينفعه، ويدفع ما يضره، لا بمعاوضة وهي البيع والعدل، ولا بغير معاوضة; لأن غير المعاوضة إما أن يكون من عند الباذل، وإما أن يكون سائلا لها من غيره. [ ص: 152 ]

والتي من عنده أعلى مراتبها أن يكون خليلا له، وهو الكامل في محبته، التي تخللت محبته كله، كما قيل:


قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا

فيبذل له ما ينفعه، ويدفع عنه ما يضره، بلا عوض.

فنفى سبحانه أن يكون هناك خلة، وهو تنبيه على انتفاء ما سواها بالعموم بالفحوى.

ونفى في الأخرى بصيغة العموم اللفظي، فقال: واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ، وهو في معنى قوله: ولا خلة ، فهذا الباذل من عنده. والطالب من غيره وهو الشفيع، فقال: ولا يقبل منها شفاعة ، وقال: ولا شفاعة

فالآيتان سواء، وهما جامعتان للأنواع نوعا نوعا. [ ص: 153 ]

وهذا من معنى كون القرآن متشابها مثاني، ومن معنى كونه من جوامع الكلم، ومن معنى أنه أحكمت آياته ثم فصلت، ومن معنى كونه ضرب فيه من كل مثل.

وهو كما قال ابن عباس: «فيه الأقسام والأمثال».

فالأمثال: الأمور المتشابهة المتماثلة. ويضرب لها المثل بقياس الشبه، والتمثيل، وقياس الشمول.

والأقسام: هي الأصناف والأنواع المختلفة، وهي التي تثنى؛ أي: تعدد وتقسم، فتذكر كلمة بعد كلمة، واسم بعد اسم، بخلاف المتشابهة، فإنه يجمعها اسم واحد وكلمة واحدة. ويضرب لها المثل بقياس التقسيم والتفصيل.

ومثل هؤلاء الآيات قوله تعالى: وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها [الأنعام: 70].

فلما نفى سبحانه أن يقبل في الآخرة من النفس الشفاعة، وأخبر أنه لا شفاعة في ذلك اليوم، بين أنه في من قبلت شفاعته هو الآمر بالشفاعة، [ ص: 154 ] وأذن له فيها، ففي الحقيقة ليس هو شفيعا، وإنما هو عبد مطيع.

يبين ذلك أن «الشفاعة» سميت بذلك لأن الشفيع يصير شفعا للطالب، فإنه يكون طالبا لأمر، فإن أعانه آخر صار شافعا، والشفيع كالمعين والنصير، وهذا في الدنيا يفعل ابتداء، وأما في الآخرة فلا معين ولا نصير إلا بأمر الله، فلا فرق بين الذي هو يشفع بإذنه وبين سائر جنود الله الذين لا يفعلون إلا بإذنه، والذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

وهكذا قول المشركين: تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما أضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين ولا صديق حميم [الشعراء: 97 – 101]، فإن الصديق الحميم هو مثل الخليل، ومثل قوله: لا تجزي نفس عن نفس شيئا [البقرة: 48]، ومثل قوله: لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا [لقمان: 33].

التالي السابق


الخدمات العلمية