الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن هنا ذهب أهل التثنية والتمجس إلى الأصلين، والقول بقدم النور والظلمة.

وسلم بعض السلامة -وإن كان فيه نوع من اليبوسة، وضرب من الجفاف- كثير من متكلمي أهل الإثبات، حيث ردوا الأمر إلى محض المشيئة وصرف الإرادة، وأن انتسابها إلى جميع الجائزات، واقتضاءها كل الممكنات، على نحو واحد ووتيرة واحدة، وأنها بذاتها تخصص وتميز. ولو خلط بهذا الكلام ضرب من وجوه الرحمة وأنواع الحكمة -علمناها أو جهلناها- لكان أقرب إلى القبول.

وبكل حال، فلام التعليل في فعله سبحانه ليست على ما يعقله أكثر الخلق من لام التعليل في أفعالهم. [ ص: 113 ]

ووراء ما يعلمه هؤلاء ويقولونه ما أنار الله به قلوب أوليائه، وقذفه في أفئدة أصفيائه، ممن استمسك فيما يظهر من الكلام بسبيل أهل الآثار، واعتصم فيما يبطن من الأفهام بحبل أهل الأبصار.

وفي هذا المقام يعرف أولو الألباب سر قوله عز وجل: «سبقت رحمتي غضبي»، وقوله: «والشر ليس إليك»، وقوله: بيدك الخير [آل عمران: 26]، وقوله: من شر ما خلق [الفلق: 2]، وقوله: وإذا مرضت [الشعراء: 80]، و أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا [الجن: 10]، وما شاكل ذلك من أن الشر إما أن يحذف فاعله، أو يضاف إلى الأسباب، أو يندرج في العموم. وأما إفراده بالذكر، مضافا إلى خالق كل شيء، فلا يقع في كلام حكيم; لما توجبه الحقيقة المقتضية للأدب المؤسس على الدين، لا لمحض الأدب العري عن أصل متين.

وهنا يعرف سبب دخول خلق كثير الجنة بلا عمل، وإنشاء خلق لها، وأن النار لا تدخل إلا بعمل، ولا يدخلها إلا أهل الدنيا. [ ص: 114 ]

ويعرف حقيقة وما أصابك من سيئة فمن نفسك [النساء: 79]، وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [الشورى: 30]، مع أن السيئة من القدر، وقول الصديق وغيره من الصحابة رضي الله عنهم: «إن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان».

إلى غير ذلك مما يتسع القول فيه، مما قد لحظ كل ناظر منه شعبة من الحق، وتعلق بسبب من الصواب، ولم يجمع وجوه الحق ويؤمن بالكتاب كله إلا أولو الألباب، وقليل ما هم.

فهذه إشارة يسيرة إلى كلي التقدير.

وأما كون قدرة العبد وكسبه له شأن من بين سائر الأسباب، فإن الله خص الإنسان بأن عمله يورثه في الدنيا أخلاقا وأحوالا وآثارا، وفي الآخرة أيضا أمورا أخر، لم يجعل هذا لغيره من مخلوقاته.

والوجوه التي خص بها الإنسان في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله شخصا ونوعا أكثر من أن تحصى، وما من عاقل إلا وعنده منها طرف.

ولهذا حسن توجيه الأمر والنهي إليه، وصح إضافة الفعل إليه حقيقة [ ص: 115 ] وكسبا، مع أنه خلق لله; فإن الله خلق العبد وعمله، وجعل هذا العمل له عملا قام به، وصدر عنه، وحدث بقدرته الحادثة.

وأدنى أحوال الفعل أن يكون بمنزلة الصفات والأخلاق المخلوقة في العبد إذا جعلت مفضية إلى أمور أخر، فهل يصح تجريد العبد عنها؟! كلا.

وأما الأمر، فإنه في حق المطيعين من الأسباب التي بها يكون الفعل منهم; فإنه يبعث داعيتهم، ثم إنه يوجب لهم اسم الطاعة ومحض الانقياد والاستسلام، فهو من جملة القدر السائق لهم إلى السعادة. وفي حق العاصين هو السبب الذي يستحقون به العصيان; إذ لولا هو لما تميز مطيع من عاص، فهو أيضا في حقهم من القدر السائق لهم إلى المعصية; ليضل به كثيرا ويهدي به كثيرا.

فلا تغفلن عن إدخال الأمر والنهي في جملة المقادير; فإنه يحل عقدا كثيرة.

هذا في أمر الله سبحانه; لعلمه بالعواقب. [ ص: 116 ]

وأما أمر العباد فظاهر; لعدم تميز المطيع من العاصي في علمهم، وأن قصدهم نفس صدور الفعل من الجميع.

وهو -أيضا- كذلك في ظاهر الأمر الشرعي على لسان المرسلين بالكتب المنزلة.

التالي السابق


الخدمات العلمية