[ ص: 236 ] رسالة
إلى ابن النقيب
في حديث [ ص: 238 ] وقال شيخ الإسلام «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» ابن تيمية الحراني رضي الله عنه، وهي رسالة إلى ابن النقيب:
الحمد لله رب العالمين.
السلام على الولد الفاضل اللبيب النجيب أبي عبد الله محمد بن النقيب أتم الله عليه النعمة، ووهبه العلم والحكمة، وآتاه من لدنه الرحمة.
وبعد حمد الله، والصلاة على خاتم المرسلين محمد وآله وسلم تسليما، فقد وصل ما أنعم الله تعالى على أبي عبد الله محمد، وحمدت الله وشكرته على ما أنعم به عليه من تعليم هذه الأمور، ومعرفة قدر العلم والإيمان; فإن ذلك أعظم نعمة ينعم الله بها على الإنسان، والحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.
والله سبحانه إذا أنعم على العبد بهذه النعمة فجميع الخيرات تبع لها، وما أصابه بعد ذلك من سراء فشكر كان من تمام النعمة، وما أصابه بعد ذلك من ضراء فصبر كان من تمام النعمة; فإن الله لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له.
وقد يسر الله تعالى في هذه القضية من أنواع النعمة والحكمة والرحمة ما يكون الذي رأيته قطرة من بحره، ولكني أخرجه بتدريج. [ ص: 240 ]
وإذا كبر الطلب عظم المبذول وكثر; فإن كثيرا منه لم تعرفه النفوس فتشتاق إليه; فإن الشوق فرع الشعور، ومن لم يشعر بالشيء لم يشتق إليه.
والحديث الذي ذكرته في هو كما وجدت، وهو في جميع النسخ، لا يختص بنسخة، لكن مسلما ذكر هذا اللفظ في أول المناسك عند ذكره قوله: مسلم «لا تسافر امرأة إلا مع زوج أو ذي محرم».
فحديث تضمن هذا وتضمن قوله: أبي سعيد فذكره «لا تسافروا إلا إلى ثلاثة مساجد»، هناك لأجل ذاك، وشارحو مسلم يذكرونه هناك لأجل ذاك القصد. مسلم
ولما ذكر فضائل مسلم المدينة لم يذكر إلا حديث أبي هريرة: فشرحه من شرحه هناك، وإلا فلو تفطن من غلط في فهم معناه للفظ «لا تشد الرحال»، عرفوا غلطهم. [ ص: 241 ] أبي سعيد
ولفظ هو في «الجمع بين الصحيحين»، وغالب ظني أنه في أبي سعيد أيضا، فاكتشفوه. البخاري
ولم يخالف هذا الحديث أحد من السلف، بل الصحابة، كأبي سعيد، وابن عمر، وبصرة بن أبي بصرة، وغيرهم، متفقون على أن هذا نهي يوجب التحريم، وأنه يتناول ما سوى المساجد الثلاثة.
والذين خالفوا هذا من المتأخرين حزبان:
* حزب ظنوا أن النهي لم يتناول إلا المساجد، لم يتناول آثار الأنبياء.
وهذا قول استحب السفر إلى آثار الأنبياء، ولم يذكر المقابر; لكونه لا يقول بفحوى الخطاب وتنبيهه. [ ص: 242 ] ابن حزم الظاهري،
* وحزب قالوا: إنه ليس بنهي، بل هو نفي للوجوب بالنذر، أو نفي للاستحباب.
وهذا قول طائفة من أصحاب كالشيخ الشافعي، أبي حامد، وأبي المعالي، ومن تبعهم. وهو قول ونحوه من أصحاب أبي محمد المقدسي وقول الإمام أحمد، وبعض متأخري المالكية. ابن عبد البر
وأما وجمهور أصحابه، وقدماء أصحاب مالك وجمهورهم، وطائفة من أصحاب الشافعي، فيقولون: إنه نهي. وحديث الإمام أحمد صريح في حجة هؤلاء. أبي سعيد
وأنا في جواب الفتيا التي لم يتسع فيها الكلام ذكرت القولين جميعا، ولم أستقص الكلام فيها، بل بحسب حال السائل، وقد رجحت النهي، ولم أستوعب حجج ترجيحه. [ ص: 243 ]
وأما القول باستحباب فما علمت به إذ ذاك قائلا لأحكيه، وإلى الآن لم أعرف أحدا صرح به، لكن قد قيل: إن بعض أصحاب السفر إلى زيارة القبور، قال ذلك، ابن كج أو غيره، فيكشف في لفظ الشافعي الرافعي في النذور.
وقد ذكرت في مواضع فساد قول من لم يجعله نهيا ولو لم يرو حديث فكيف مع لفظ أبي سعيد، أبي سعيد؟!
وقد ذكرت اتفاق السلف على ذلك، وذكرت أيضا اتفاق الصحابة [ ص: 244 ] والسلف على تناوله لغير المساجد، وأنه إذا نهي عن السفر إلى المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله، مع أن قصدها للعبادة والدعاء والذكر مشروع باتفاق المسلمين، فالسفر إلى المقابر التي نهي عن اتخاذها مساجد، ولم يشرع قصدها للصلاة والدعاء والذكر، بطريق الأولى والأحرى.
وابن عبد البر والشيخ الموفق وغيرهما من أصحاب مالك والشافعي وغيرهم موافقون على أنه لا يجوز وأحمد اتخاذ القبور مساجد.
وقال رضي الله عنه: أكره أن يعظم مخلوق حتى يتخذ قبره مسجدا; مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده. الشافعي
وذكر الشيخ موفق الدين في مغنيه أنه يحرم بناء المساجد على القبور، وأنه لو لم يجز الوفاء بنذره. نذر أن يذبح بمكان وعنده قبر أو شجرة أو عين أو غير ذلك مما يعظم
وقد بسطت هذه المسائل في كتاب «اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم». [ ص: 245 ]
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وعلى سائر من تختارون تبليغه السلام.
نقله شمس الدين ابن المحب من خط عمه الإمام برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم ابن المحب، وهو نقله عن خط المؤلف، رحمهم الله تعالى.
* * *