، ومن الأمر باستماعه وتلاوته والبكاء والوجل واقشعرار الجلد منه . وقد وصف سماع الأنبياء وأهل العلم وأهل المعرفة وعموم المؤمنين أنه سماع آيات الله ، فقال تعالى لما ذكر الأنبياء والقرآن مملوء من الأمر بتدبر القرآن والتفكر فيه والتذكر له وعقله عيسى ويحيى وإبراهيم وبنيه وموسى وهارون وإسماعيل وإدريس فقال : أولئك الذين أنعم الله [ ص: 36 ] عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا [مريم :58] . . فتلاوة آيات الرحمن عليهم يعم التوراة والإنجيل والقرآن والزبور ، فإن آيات الله نزلت بالعربي وغير العربي مع تنوع المعاني فيها
وقال تعالى : إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا [الإسراء :107 - 109] . فهذا إخبار عن الذين أوتوا العلم قبل القرآن إذا تلي عليهم القرآن سجدوا وبكوا وسبحوه على إنجاز وعده الذي تقدم أنه يبعث هذا الرسول وينزل هذا الكتاب . فهذا سماع الذين أوتوا العلم ، وكان سبب ذلك من آمن من علماء اليهود .
وقال في أهل المعرفة : ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين [المائدة :82 - 83] . فهذا سماع أهل المعرفة ممن آمن من النصارى ، أخبر أنهم سمعوا وبكوا وطلبوا أن يكونوا مع الشاهدين . والشاهدون كما قال ابن عباس : محمد وأمته ، فإن لهم وصف [ ص: 37 ] الشهادة ، كما قال تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس [البقرة :143] ، وقال : هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس [الحج :78] . ولهذا كان رأس دينهم شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : » . «أنتم شهداء الله في الأرض ، هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرا فقلت : وجبت لها الجنة ، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرا فقلت : وجبت لها النار
وهذا تأييد لما اصطلح عليه الناس من تسمية العلماء الناظرين في الكتب المنزلة «أهل العلم » ، وتسمية المشايخ العابدين المتألهين السامعين هنا «أهل المعرفة » ، لما في الأولين من الموسوية المشروعة وفي الآخرين من العيسوية المشروعة ، فمدح كلا الفريقين بالانقياد للمحمدية الجامعة للأمرين . ولهذا وصف الأولين بالتسبيح المتضمن تصديقهم بما جاء به الرسول لما كانوا يعلمونه ، ووصف الآخرين بالدعاء والطلب لأن يكونوا مع محمد وأمته . فظهر في الأولين نعت العلم النافع ، وهو الخبر الصادق والتصديق بالحق ، وفي الآخرين نعت العمل الصالح ، وهو الدعاء المشروع والعبادة المأمور بها ، فإن العباد يطلب منهم الدعاء ، والعلماء يطلب منهم الثناء ، فظهر في الأولين الثناء وفي الآخرين الدعاء . [ ص: 38 ]
ولذلك ذكر أن هذا سماع المؤمنين ، فقال تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا [الأنفال :2] ، وقال تعالى : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق [الحديد :16] ، وقال : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [الزمر :23] .