وأما ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغ أو غير سائغ فلا يجوز أن يزال بما فيه ظلم وجور ، كما هو عادة أكثر النفوس ، يزيل الشر بما هو شر منه ، ويزيل العدوان بما هو أعدى منه . فالخروج عليهم [ ص: 47 ] يوجب من الظلم والفساد أكثر من ظلمهم ، فيصبر عليه ، كما يصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ظلم المأمور المنهي في مواضع كثيرة ، كقوله : وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك [لقمان :17] ، وقوله : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [الأحقاف :35] ، وقوله : واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا [الطور :48] .
وهذا عام في ولاة الأمور وفي الرعية ، إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فعليهم أن يصبروا على ما أصيبوا به في ذات الله ، كما يصبر المجاهدون على ما يصاب من أنفسهم وأموالهم . فالصبر على الأذى في العرض أولى وأولى ؛ وذلك لأن مصلحة الأمر والنهي لا تتم إلا بذلك ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
ويندرج في ذلك ولاة الأمور ، فإن عليهم من الصبر والحلم ما ليس على غيرهم ، كما أن عليهم من الشجاعة والسماحة ما ليس على غيرهم ؛ لأن مصلحة الإمارة لا تتم إلا بذلك . فكما ، أو كان تركه يفضي إلى فساد أكثر منه ، فكذلك يجب وجب على الأئمة الصبر على أذى الرعية وظلمها إذا لم تتم المصلحة إلا بذلك . على الرعية الصبر على جور الأئمة وظلمهم إذا كان في ترك الصبر مفسدة راجحة
فعلى كل من الراعي والرعية للآخر حقوقا عليه أداؤها ، كما [ ص: 48 ] ذكرت بعضه في «كتاب الجهاد والقضاء » ، وعليه أن يصبر للآخر ويحلم عنه في أمور . فلا بد من السماحة والصبر في كل منهما ، كما قال تعالى : وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة [البلد :17] ، وفي الحديث : «أفضل الإيمان : السماحة والصبر » . وفي أسماء الله : الغفور الرحيم ، فبالحلم يعفو على سيئاتهم ، وبالسماحة يوصل إليهم المنافع ، فيجمع جلب المنفعة ودفع المضرة . فأما الإمساك عن ظلمهم والعدل عليهم فوجوب ذلك أظهر من هذا ، فلا حاجة إلى بيانه . والله أعلم . [ ص: 49 ]