فصل
في التوبة . قد سبق أن ، وظهر إعراضه عما كان عليه ، قال الأصحاب : التوبة تنقسم إلى توبة بين العبد وبين الله - تعالى - وهي التي يسقط بها الإثم ، وإلى توبة في الظاهر ، وهي تتعلق بها عود الشهادة والولايات ، أما الأولى ، فهي أن يندم على فعل ، ويترك فعله في الحال ، ويعزم أن لا يعود إليه ، ثم إن كانت المعصية لا يتعلق بها حق مالي لله - تعالى - ولا للعباد ، كقبلة الأجنبية ومباشرتها فيما دون الفرج ، فلا شيء عليه سوى ذلك ، وإن [ ص: 246 ] تعلق بها حق مالي ، كمنع الزكاة ، والغصب ، والجنايات في أموال الناس ، وجب مع ذلك تبرئة الذمة عنه ، بأن يؤدي الزكاة ، ويرد أموال الناس إن بقيت ، ويغرم بدلها إن لم تبق ، أو يستحل المستحق ، فيبرئه ويجب أن يعلم المستحق إن لم يعلم به ، وأن يوصله إليه إن كان غائبا إن كان غصبه منه هناك ، فإن مات ، سلمه إلى وارثه ، فإن لم يكن له وارث وانقطع خبره ، دفعه إلى قاض ترضى سيرته وديانته ، فإن تعذر ، تصدق به على الفقراء بنية الغرامة له إن وجده ، ذكره من لا تقبل شهادته لمعصية تقبل إذا تاب العبادي في " الرقم " في غير كتبه الفقهية . وإن كان معسرا ، نوى الغرامة إذا قدر ، فإن مات قبل القدرة ، فالمرجو من فضل الله - تعالى - المغفرة . والغزالي
قلت : ظواهر السنن الصحيحة تقتضي ثبوت المطالبة بالظلامة وإن مات معسرا عاجزا إذا كان عاصيا بالتزامها ، فأما إذا استدان في مواضع يباح له الاستدانة ، واستمر عجزه عن الوفاء حتى مات ، أو أتلف شيئا خطأ ، وعجز عن غرامته حتى مات ، فالظاهر أن هذا لا مطالبة في حقه في الآخرة ، إذ لا معصية منه ، والمرجو أن الله - تعالى - يعوض صاحب الحق ، وقد أشار إلى هذا إمام الحرمين في أول كتاب النكاح : وتباح الاستدانة لحاجة في غير معصية ولا سرف إذا كان يرجو الوفاء من جهة ، أو سبب ظاهر . والله أعلم .
وإن تعلق بالمعصية حق ليس بمالي ، فإن كان حدا لله تعالى بأن زنى أو شرب ، فإن لم يظهر عليه ، فله أن يظهره ، ويقر به ليقام عليه الحد ، ويجوز أن يستر على نفسه وهو الأفضل ، فإن ظهر ، فقد فات [ ص: 247 ] الستر ، فيأتي الإمام ليقيم عليه الحد ، قال ابن الصباغ : إلا إذا تقادم عليه العهد ، وقلنا : يسقط الحد .
وإن كان حقا للعباد ، كالقصاص وحد القذف ، فيأتي المستحق ، ويمكنه من الاستيفاء ، فإن لم يعلم المستحق ، وجب في القصاص أن يعلمه ، فيقول : أنا الذي قتلت أباك ، ولزمني القصاص ، فإن شئت ، فاقتص ، وإن شئت فاعف . وفي حد القذف سبق في كتب اللعان خلاف في وجوب إعلامه ، وقطع العبادي وغيره هنا بأنه يجب إعلامه ، كالقصاص .
وأما الغيبة إذا لم تبلغ المغتاب ، فرأيت في فتاوى الحناطي أنه يكفيه الندم والاستغفار ، وإن بلغته ، أو طرد طارد قياس القصاص والقذف فيها ، فالطريق أن يأتي المغتاب ويستحل منه ، فإن تعذر لموته ، أو تعسر لغيبته البعيدة ، استغفر الله - تعالى - ولا اعتبار بتحليل الورثة ، هكذا ذكره الحناطي وغيره ، قال العبادي : والحسد كالغيبة وهو أن يهوى زوال نعمة الغير ، ويسر ببليته ، فيأتي المحسود ويخبره بما أضمره ويستحله ، ويسأل الله - تعالى - أن يزيل عنه هذه الخصلة . وفي وجوب الإخبار عن مجرد الإضمار بعيد .
قلت : المختار بل الصواب أنه لا يجب إخبار المحسود ، بل لا يستحب ، ولو قيل : يكره لم يبعد . وهل يكفي الاستحلال من الغيبة المجهولة ، أم يشترط معرفتها للعافي ؟ فيه وجهان سبقا في كتاب الصلح . والله أعلم .