الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        السبب الثالث : العداوة ، فلا تقبل شهادة عدو على عدوه ، والعداوة التي ترد بها الشهادة أن تبلغ حدا يتمنى زوال نعمته ، ويفرح لمصيبته ، ويحزن لمسرته ، وذلك قد يكون من الجانبين ، وقد يكون من أحدهما ، فيخص برد شهادته على الآخر . وإن أفضت الشهادة إلى ارتكاب ما يفسق به ، ردت شهادته على الإطلاق . ولو عادى من يريد أن يشهد عليه ، وبالغ في خصومته ، فلم يجبه ، وسكت عنه ، ثم شهد عليه ، قبلت شهادته ، لأنا لو لم نقبلها لاتخذ الخصوم ذلك ذريعة إلى إسقاط الشهادة . هكذا حكاه الروياني عن القفال ، وذكره جماعة ، منهم البغوي في كتاب اللعان أن شهادة المقذوف على قاذفه قبل طلب [ ص: 238 ] الحد مقبولة ، وبعده لا تقبل ، لظهور العداوة ، وأنه لو شهد بعد الطلب ، ثم عفا وأعاد تلك الشهادة ، لم تقبل كالفاسق إذا شهد ، ثم تاب وأعاد تلك الشهادة ، وأنه لو شهد قبل الطلب ، ثم طلب قبل الحكم ، لم يحكم بشهادته ، كما لو فسق الشاهد قبل الحكم ، لكن في تعليق الشيخ أبي حامد وغيره أن الشافعي - رحمه الله - صور العداوة الموجبة للرد فيما إذا قذف رجل رجلا ، أو ادعى عليه أنه قطع الطريق عليه ، وأخذ ماله ، فيقال : يصيران عدوين ، فلا تقبل شهادة أحدهما على الآخر ، فاكتفى بالقذف دليلا على العداوة ، ولم يتعرض لطلب الحد ، قال الروياني : لعل القفال أراد غير صورة القذف ، ثم على ما ذكره البغوي الحكم غير منوط بأن يطلب المقذوف الحد ، بل بأن يظهر العداوة ، ولا شك أنه لو شهد على رجل ، فقذفه المشهود عليه ، لم يمنع ذلك من الحكم بشهادته ، نص عليه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        العداوات الدينية لا توجب رد الشهادة ، بل يقبل للمسلم على الكافر والسني على المبتدع ، وكذا من أبغض الفاسق لفسقه لا ترد شهادته عليه . ولو قال عالم ناقد : لا تسمعوا الحديث من فلان ، فإنه مخلط ، أو لا تستفتوه ، فإنه لا يعرف الفتوى ، لم ترد شهادته ؛ لأن هذا نصيحة للناس ، نص عليه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        تقبل شهادة العدو لعدوه إذ لا تهمة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        العصبية أن يبغض الرجل لكونه من بني فلان ، فإن انضم إليها [ ص: 239 ] دعاء الناس ، وتآلفهم للإضرار به والوقيعة فيه ، اقتضى رد شهادته عليه ، ومجرد هذا لا يقتضيه ، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه وعترته ، فتقبل شهادته لهم ، وشهادتهم له ، وتقبل شهادته لصديقه وأخيه وإن كان يصله ويبره .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        في شهادة المبتدع . جمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لا يكفرون أحدا من أهل القبلة ، لكن اشتهر عن الشافعي - رضي الله عنه - تكفير الذين ينفون علم الله - تعالى - بالمعدوم ، ويقولون : ما يعلم الأشياء حتى يخلقها ، ونقل العراقيون عنه تكفير الناهين للرؤية والقائلين بخلق القرآن ، وتأوله الإمام ، فقال : ظني أنه ناظر بعضهم ، فألزمه الكفر في الحجاج ، فقيل : إنه كفرهم .

                                                                                                                                                                        قلت : أما تكفير منكري العلم بالمعدوم أو بالجزئيات ، فلا شك فيه ، وأما من نفى الرؤية أو قال بخلق القرآن ، فالمختار تأويله ، وسننقل - إن شاء الله تعالى - عن نصه في الأم ما يؤيده ، وهذا التأويل الذي ذكره الإمام حسن ، وقد تأوله الإمام الحافظ الفقيه الأصولي أبو بكر البيهقي - رضي الله عنه - وآخرون تأويلات متعارضة ، على أنه ليس المراد بالكفر الإخراج من الملة ، وتحتم الخلود في النار . وهكذا تأولوا ما جاء عن جماعة من السلف من إطلاق هذا اللفظ ، واستدلوا بأنهم لم يلحقوهم بالكفار في الإرث والأنكحة ، ووجوب قتلهم وقتالهم وغير ذلك . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ثم من كفر من أهل البدع لا تقبل شهادته ، وأما من لا يكفره من أهل البدع والأهواء ، فقد نص الشافعي - رحمه الله - في " الأم " و " المختصر " على قبول شهادتهم إلا الخطابية وهم قوم يرون جواز [ ص: 240 ] شهادة أحدهم لصاحبه إذا سمعه يقول : لي على فلان كذا ، فيصدقه بيمين أو غيرها ، ويشهد له اعتمادا على أنه لا يكذب هذا نصه . وللأصحاب فيه ثلاث فرق : فرقة جرت على ظاهر نصه ، وقبلت شهادة جميعهم ، وهذه طريقة الجمهور ، منهم ابن القاص ، وابن أبي هريرة ، والقضاة ابن كج ، وأبو الطيب ، والروياني ، واستدلوا بأنهم مصيبون في زعمهم ولم يظهر منهم ما يسقط الثقة بقولهم ، وقبل هؤلاء شهادة من سب الصحابة والسلف - رضي الله عنهم - ؛ لأنه تقدم عليه عن اعتقاد لا عن عداوة وعناد ، قالوا : ولو شهد خطابي وذكر في شهادته ما يقطع احتمال الاعتماد على قول المدعي بأن قال : سمعت فلانا يقر بكذا لفلان ، أو رأيته أقرضه ، قبلت شهادته .

                                                                                                                                                                        وفرقة منهم الشيخ أبو حامد ومن تابعه حملوا النص على المخالفين في الفروع ، وردوا شهادة أهل الأهواء كلهم ، وقالوا : هم بالرد أولى من الفسقة . وفرقة ثالثة توسطوا ، فردوا شهادة بعضهم دون بعض ، فقال أبو إسحاق : من أنكر إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - ، ردت شهادته لمخالفته الإجماع ، ومن فضل عليا على أبي بكر - رضي الله عنهما - لم ترد شهادته ، ورد الشيخ أبو محمد شهادة الذين يسبون الصحابة ، ويقذفون عائشة - رضي الله عنها - ، فإنها محصنة كما نطق به القرآن ، وعلى هذا جرى الإمام والغزالي والبغوي ، وهو حسن . وفي " الرقم " أن شهادة الخوارج مردودة لتكفيرهم أهل القبلة .

                                                                                                                                                                        قلت : الصواب ما قالته الفرقة الأولى وهو قبول شهادة الجميع ، فقد قال الشافعي - رحمه الله - في " الأم " : ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث إلى أمور تباينوا فيها تباينا شديدا ، واستحل بعضهم [ ص: 241 ] من بعض ما تطول حكايته ، وكان ذلك متقادما ، منه ما كان في عهد السلف إلى اليوم ، فلم نعلم أحدا من سلف الأمة يقتدى به ، ولا من بعدهم ( من ) التابعين رد شهادة أحد بتأويل ، وإن خطأه وضلله ، ورآه استحل ما حرم الله - تعالى - عليه ، فلا ترد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله ، وإن بلغ فيه استحلال المال والدم . هذا نصه بحروفه وفيه التصريح بما ذكرنا ، وبيان ما ذكرناه في تأويل تكفير القائل بخلق القرآن ، ولكن قاذف عائشة ( رضي الله عنها ) كافر ، فلا تقبل شهادته . ولنا وجه ( أن ) الخطابي لا تقبل شهادته وإن بين ما يقطع ، لاحتمال اعتماده ، وقول صاحبه . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية