الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 178 ] الطرف الثالث في كتاب القاضي إلى القاضي ، فالقاضي بعد سماع الدعوى والبينة على الغائب قد يقتصر عليه ، وينهي الأمر إلى قاضي بلد الغائب ليحكم ويستوفي ، وقد يحلفه كما سبق ، ويحكم وعلى التقدير الثاني قد يكون للغائب مال حاضر يمكن أداء الحق منه فيؤدى ، وقد لا يكون كذلك ، فيسأل المدعي القاضي إنهاء الحكم إلى قاضي بلد الغائب ، فيجيبه إليه .

                                                                                                                                                                        وللإنهاء طريقان ، أحدهما : أن يشهد على حكمه عدلين يخرجان إلى ذلك البلد ، والأولى أن يكتب بذلك كتابا أولا ، ثم يشهد ، وصورة الكتاب : حضر فلان ، وادعى على فلان الغائب المقيم ببلد كذا ، وأقام عليه شاهدين وهما فلان وفلان ، وقد عدلا عندي ، وحلفت المدعي ، وحكمت له بالمال ، فسألني أن أكتب إليك في ذلك فأجبته ، وأشهدت بذلك فلانا وفلانا .

                                                                                                                                                                        ولا يشترط تسمية الشاهدين على الحكم ، ولا ذكر أصل الإشهاد ، ولا تسمية شهود الحق ، بل يكفي أن يكتب : شهد عندي عدول ويجوز أن لا يصفهم بالعدالة ، ويكون الحكم بشهادتهم تعديلا لهم ، ذكره في العدة ، ويجوز أن لا يتعرض لأصل الشهادة ، فيكتب : حكمت بكذا بحجة أوجبت الحكم ؛ لأنه قد يحكم بشاهد ويمين وقد يحكم بعلمه إذا جوزناه ، وهذه حيلة يدفع بها القاضي قدح الحنفية إذا حكم بشاهد ويمين .

                                                                                                                                                                        وفي فحوى كلام الأصحاب وجه ضعيف مانع من إبهام الحجة ، لما فيه من سد باب الطعن والقدح على الخصم .

                                                                                                                                                                        ويستحب للقاضي أن يختم الكتاب ويدفع إلى الشاهدين نسخة غير مختومة ليطالعاها ، ويتذاكرا عند الحاجة ، وأن يذكر في الكتاب نقش خاتمه الذي يختم به ، وأن يثبت اسم نفسه ، واسم المكتوب إليه في باطن الكتاب ، وفي العنوان أيضا . وأما الإشهاد ، فإن أشهدهما أنه حكم بكذا ، ولا كتاب ، شهدا به ، وقبلت شهادتهما ، وإن أنشأ الحكم بين أيديهما ، فلهما أن يشهدا عليه وإن لم [ ص: 179 ] يشهدهما ، وإن كتب ، ثم أشهد ، فينبغي أن يقرأ الكتاب أو يقرأ بين يديه عليهما ثم يقول لهما : اشهدا علي بما فيه ، أو على حكمي المبين فيه ، وفي " الشامل " أنه لو اقتصر بعد القراءة على قوله : هذا كتابي إلى فلان ، أجزأ ، وحكى ابن كج وجها أنه يكفي مجرد القراءة عليهما ، والأحوط أن ينظر الشاهدان وقت القراءة عليهما في الكتاب ، فلو لم يقرأ الكتاب عليهما ، ولم يعلما ما فيه ، قال القاضي : أشهدكما على أن هذا كتابي أو ما فيه خطي ، لم يكف ، ولم يكن لهما أن يشهدا على حكمه ؛ لأن الشيء قد يكتب من غير قصد بحقيقة .

                                                                                                                                                                        ولو قال : أشهدكما على أن ما فيه حكمي ، أو على أني قضيت بمضمونه ، فوجهان ، أصحهما : لا يكفي حتى يفصل ما حكم به ، والثاني : يكفي لإمكان معرفة التفصيل بالرجوع إليه ، ويجري الخلاف فيما لو قال المقر : أشهدتك على ما في هذه القبالة وأنا عالم به ، لكن الأصح عند الغزالي في الإقرار أنه يكفي ، حتى إذا سلم القبالة إلى الشاهد ، وحفظها الشاهد ، وأمن التحريف ، جاز له أن يشهد على إقراره ؛ لأنه يقر على نفسه ، والإقرار بالمجهول صحيح ، وقطع الصيمري بأنه لا يكفي في الإقرار أيضا حتى يقرأه ويحيط بما فيه ، قال : وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة - رحمهما الله - ويشبه أن يكون الخلاف في أن الشاهد هل يشهد أنه أقر بمضمون القبالة مفصلا .

                                                                                                                                                                        فأما الشهادة على أنه أقر بما في هذا الكتاب مبهما ، فينبغي أن يقبل بلا خلاف كسائر الأقارير المبهمة ، ثم سواء شهد كذا أو كذا ، فإنما يشهد إذا كان الكتاب محفوظا عنده ، وأمن التصرف .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        التعويل على شهادة الشهود ، والمقصود من الكتاب التذكر ، ومن الختم الاحتياط ، وإكرام المكتوب إليه ، فلو ضاع الكتاب ، أو امحى [ ص: 180 ] أو انكسر الختم ، وشهدا بمضمونه المضبوط عندهما ، قبلت شهادتهما ، وقضي بها ، فلو شهدا بخلاف ما في الكتاب ، عمل بشهادتهما ، ولا يكفي الكتاب المجرد .

                                                                                                                                                                        وقال الإصطخري : إذا وثق المكتوب إليه بالخط والختم ، كفى ، والصحيح الأول .

                                                                                                                                                                        ويشترط إشهاد رجلين عدلين ، فلا يقبل رجل وامرأتان ، وقيل : يقبل إن تعلقت الحكومة بمال ، وذكر ابن كج أنه لو كان الكتاب برؤية هلال رمضان ، كفى شهادة واحد على قولنا : يثبت بواحد ، وأنه لو كتب بالزنى وجوزنا كتاب القاضي إلى قاض في العقوبات هل يثبت برجلين أم يشترط أربعة ؟ وجهان بناء على القولين في الإقرار بالزنى .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا وصل كتاب القاضي وحامله إلى قاضي البلد الآخر ، أحضر الخصم ، فإن أقر بالمدعى ، استوفاه ، وإلا فيشهد الشاهدان أن هذا كتاب القاضي فلان وختمه حكم فيه لفلان بكذا على هذا وقرأه علينا وأشهدنا به ، ولو لم يقولوا : أشهدنا به ، جاز ، ولا يكفي ذكرهما الكتاب والختم ، بل لا بد من التعرض لحكمه .

                                                                                                                                                                        ثم في " التهذيب " والرقم أن القاضي إنما نقض الختم بعد شهادة الشهود وتعديلهم ، وذكر الهروي أنه يفتح الكتاب أولا ثم يشهدون . ويوافق هذا قول كثير من الأصحاب أن الشهود يقرأون الكتاب ، ثم يشهدون ليقفوا على ما فيه ، ويعلموا أنه لم يخرق ، وليس هذا خلافا في الجواز ، وكيف وقد عرف أن الختم من أصله لا اعتبار به ، فكما تقبل الشهادة على ما لا ختم عليه تقبل على المفضوض ختمه ، وسواء فضه القاضي أو غيره ، وإنما هو في الأدب والاحتياط .

                                                                                                                                                                        [ ص: 181 ] فرع

                                                                                                                                                                        يجوز أن يكتب إلى قاض معين ، ويجوز أن يطلق فيكتب إلى كل من يصل إليه من القضاة ، وإذا كان الكتاب إلى معين ، فشهد شاهدا الحكم عند حاكم آخر ، قبل شهادتهما وأمضاه ، وإن لم يكتب : وإلى كل من يصل إليه من القضاة ؛ اعتمادا على الشهادة ، وكذا لو مات الكاتب وشهدا على حكمه عند المكتوب إليه أو مات المكتوب إليه ، وشهدا عند من قام مقامه ، قبل شهادتهما ، وأمضى الحكم .

                                                                                                                                                                        والعزل والجنون والعمى والخرس كالموت . ولو كتب القاضي إلى خليفته ، ثم مات القاضي ، أو عزل ، تعذر على الخليفة القبول والإمضاء إن قلنا : ينعزل بانعزال الأصل ، ولو ارتد القاضي الكاتب أو فسق ، ثم وصل الكتاب إلى المكتوب إليه ، فوجهان ، قطع ابن القاص وصاحبا " المهذب " و " التهذيب " وآخرون بأن الكتاب إن كان بالحكم المبرم ، أمضي ؛ لأن الفسق الحادث لا يؤثر في الحكم السابق ، وإن كان بسماع الشهادة ، لم يقبل ولم يحكم به ، كما لو فسق الشاهد قبل الحكم ، وأطلق ابن كج أنه لا يقبل كتابه إذا فسق ، وهو مقتضى كلام الشيخ أبي حامد وابن الصباغ .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        شهود الكتاب والحكم يشترط ظهور عدالتهم عند المكتوب إليه ، وهل تثبت عدالتهم بتعديل الكاتب إياهم ؟ وجهان ، قال القفال الشاشي : نعم للحاجة ، والأصح المنع ؛ لأنه تعديل قبل أداء الشهادة ، ولأنه كتعديل المدعي شهوده ، ولأن الكتاب إنما يثبت بقولهم ، فلو ثبت به عدالتهم لثبتت بقولهم ، والشاهد لا يزكي نفسه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ينبغي أن يثبت القاضي في الكتاب اسم المحكوم له ، والمحكوم عليه ، وكنيتهما ، واسم أبويهما ، وجديهما ، وحليتهما ، وصنعتهما ، [ ص: 182 ] وقبيلتهما ليسهل التمييز ، وإن كان مشهورا ظاهر الصيت ، وحصل الإعلام ببعض ما ذكرنا ، اكتفي به . وإذا أثبت الأوصاف كما ذكرنا ، فحمل الكتاب إلى المكتوب إليه ، وأحضر الحامل عنده من زعم محكوما عليه ، نظر إن شهد شهود الكتاب والحكم على عينه ؛ لأن القاضي الكاتب حكم عليه ، طولب بالحق ، وإن لم يشهدوا على عينه ، لكن شهدوا على موصوف بالصفات المذكورة في الكتاب ، فأنكر المحضر أن ما في الكتاب اسمه ونسبه ، فالقول قوله مع يمينه ، وعلى المدعي البينة على أنه اسمه ونسبه ، فإن لم تكن بينة ، ونكل المحضر ، حلف المدعي ، وتوجه له الحكم .

                                                                                                                                                                        ولو قال : لا أحلف على أنه ليس اسمي ونسبي ، ولكن أحلف على أنه لا يلزمني تسليم شيء إليه ، فحكى الإمام والغزالي عن الصيدلاني أنه يقبل منه اليمين هكذا ، كما لو ادعى عليه قرضا ، فأنكر ، وأراد أن يحلف على أنه لا يلزمه شيء ، فإنه يقبل ، واختارا أنه لا يقبل ، وفرقا بأن مجرد الدعوى ليس بحجة ، وهنا قامت بينة على المسمى بهذا الاسم ، وذلك يوجب الحق عليه إن ثبت كونه المسمى ، وإن قامت البينة بأنه اسمه ونسبه ، فقال : نعم ، لكن لست المحكوم عليه ، فإن لم يوجد هناك من يشاركه في الاسم والصفات المذكورة ، لزمه الحكم ؛ لأن الظاهر أنه المحكوم عليه ، وإن وجد بأن عرفه القاضي ، أو قامت عليه بينة ، وأحضر المشارك ، فإن اعترف بالحق ، طولب به ، وخلص الأول ، وإن أنكر بعث الحاكم إلى الكاتب بما وقع من الإشكال ، ليحضر الشاهدين ، ويطلب منهما مزيد صفة يتميز بها المشهود عليه ، فإن ذكرا مزيدا ، كتب إليه ثانيا ، وإلا وقف الأمر حتى تنكشف .

                                                                                                                                                                        ولو أقام المحضر بينة على موصوف بتلك الصفات كان هناك وقد مات ، فإن مات بعد الحكم ، فقد وقع الإشكال ، وإن مات قبله ، فإن لم يعاصره المحكوم [ ص: 183 ] له ، فلا إشكال ، وإن عاصره حصل الإشكال على الأصح ، هذا كله إذا أثبت القاضي اسم المحكوم عليه ونسبه وصفته كما سبق ، أما إذا اقتصر على قوله : حكمت على محمد بن أحمد مثلا ، فالحكم باطل ؛ لأن المحكوم عليه مبهم ، ولم يتعين بإشارة ولا وصف كامل بخلاف ما إذا استقصى الوصف ، فظهر اشتراك على الندور ، حتى لو اعترف رجل في بلد المكتوب إليه بأنه محمد بن أحمد وأنه المعني بالكتاب ، لم يلزمه ذلك الحكم لبطلانه في نفسه إلا أن يقر بالحق ، فيؤاخذ به هذا هو الصحيح ، وهو الذي نقله الإمام والغزالي وغيرهما ، وذكر ابن القاص وأبو علي الطبري أنه إذا ورد الكتاب ، أحضر القاضي المكتوب عليه ، وقرأ عليه الكتاب ، فإن أقر أنه المكتوب عليه ، أخذه به ، سواء كان رفع نسبه وذكر صفته أم لا ، ولا شك أنه لو شهد الشهود كما ينبغي إلا أنه أبهم في الكتاب اسم المكتوب عليه يقبل الشهادة ، ويعمل بمقتضاها ، لما سبق أن الاعتبار بقول الشهود لا بالكتاب .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية