الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        لو قصر فيما عليه من دين ومظلمة ، ومات المستحق ، واستحقه وارث بعد وارث ، ثم مات ولم يوفهم ، فمن يستحق المطالبة به في الآخرة ؟ فيه أوجه أرجحها - وبه أفتى الحناطي - أنه صاحب الحق أولا ، والثاني : أنه آخر من مات من ورثته ، أو ورثة ورثته وإن نزلوا ، والثالث [ ص: 248 ] ذكره العبادي في " الرقم " : أنه يكتب الأجر لكل وارث مدة حياته ، ثم بعده لمن بعده ، ولو دفع إلى بعض الوارثين عند انتهاء الاستحقاق إليه ، خرج عن مظلمة الجميع فيما سوف ومطل . وأما التوبة في الظاهر ، فالمعاصي تنقسم إلى فعلية وقولية ، أما الفعلية ، كالزنى والسرقة والشرب ، فإظهار التوبة منها لا يكفي في قبول الشهادة ، وعود الولاية ، بل يختبر مدة يغلب على الظن فيها أنه قد أصلح عمله وسريرته ، وأنه صادق في توبته ، وفي تقدير هذه المدة أوجه : الأكثرون أنها سنة ، والثاني : ستة أشهر ، ونسبوه إلى النص ، والثالث : لا يتقدر بمدة إنما المعتبر حصول غلبة الظن بصدقه ، ويختلف ذلك بالأشخاص ، وأمارات الصدق ، وهذا اختيار الإمام والعبادي والغزالي .

                                                                                                                                                                        وأما القولية ، فمنها القذف ، ويشترط في التوبة منه القول ، كما أن التوبة من الردة بكلمتي الشهادة . قال الشافعي - رحمه الله - : التوبة منه إكذابه نفسه ، فأخذ الإصطخري بظاهره ، وشرط أن يقول : كذبت فيما قذفت ، ولا أعود إلى مثله . وقال الجمهور : لا يكلف أن يقول : كذبت ، فربما كان صادقا ، فكيف نأمره بالكذب ؟ ولكن يقول : القذف باطل وإني نادم على ما فعلت ، ولا أعود إليه ، أو يقول : ما كنت محقا في قذفي ، وقد تبت منه ، ونحو ذلك .

                                                                                                                                                                        وسواء في هذا القذف على سبيل السب والإيذاء ، والقذف على صورة الشهادة إذا لم يتم عدد الشهود ، إن قلنا بوجوب الحد على من شهد ، فإن لم نوجب ، فلا حاجة بالشاهد إلى التوبة . ويشبه أن يشترط في هذا الإكذاب كونه عند القاضي . ثم إذا تاب بالقول ، فهل يستبرئ المدة المذكورة إذا كان عدلا قبل القذف ؟ ينظر إن [ ص: 249 ] كان القذف على صورة الشهادة لم يشترط على المذهب ، وإن كان قذف سب وإيذاء ، اشترط على المذهب .

                                                                                                                                                                        واعلم أن اشتراط التوبة بالقول في القذف مشكل ، وإلحاقه بالردة ضعيف ، فإن اشتراط كلمتي الشهادة مطرد في الردة القولية والفعلية ، كإلقاء المصحف في القاذورات ، ثم مقتضى ما ذكروه في القذف أن يشترط التوبة بالقول في سائر المعاصي القولية ، كشهادة الزور والغيبة والنميمة وقد صرح صاحب " المهذب " بذلك في شهادة الزور ، فقال : التوبة منها أن يقول : كذبت فيما فعلت ولا أعود إلى مثله .

                                                                                                                                                                        فروع

                                                                                                                                                                        لو قذف وأتى ببينة على زنى المقذوف ، فوجهان ، حكاهما الإمام ، أحدهما : لا تقبل شهادته ؛ لأنه ليس له أن يقذف ، ثم يقيم البينة ، بل كان ينبغي أن يجيء مجيء الشهود ، والصحيح القبول ؛ لأن صدقه قد تحقق بالبينة ، وكذا الحكم لو اعترف المقذوف ، وكذا لو قذف زوجته ولاعن ، وسواء في رد الشهادة ، وكيفية التوبة قذف محصنا أو غيره حتى لو قذف عبد نفسه ، ردت شهادته ، ويكفي تحريم القذف سببا للرد ، وشاهد الزور يستبرئ ، كسائر الفسقة فإذا ظهر صلاحه ، قبلت شهادته في غير تلك الواقعة ، ومن غلط في شهادة لا يشترط استبراؤه ، وتقبل شهادته في غير واقعة الغلط ، ولا تقبل فيها .

                                                                                                                                                                        قلت : التوبة من أصول الإسلام المهمة ، وقواعد الدين ، وأول منازل السالكين ، قال الله تعالى : ( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون ) فالتوبة من المعصية واجبة على الفور بالاتفاق ، وقد تقدمت صفتها ، وتصح التوبة من ذنب وإن كان ملابسا ذنبا آخر مصرا عليه ، ولو تاب من ذنب ، ثم فعله مرة أخرى ، لم تبطل التوبة ، بل هو مطالب بالذنب [ ص: 250 ] الثاني دون الأول .

                                                                                                                                                                        ولو تكررت التوبة ، ومعاودة الذنب ، صحت ، هذا مذهب الحق في المسلمين خلافا للمعتزلة . قال إمام الحرمين في " الإرشاد " : والقتل الموجب للقود تصح التوبة منه قبل تسليم القاتل نفسه ليقتص منه ، فإذا ندم ، صحت توبته في حق الله - تعالى - ، وكان منعه القصاص من مستحقه معصية مجددة ، ولا يقدح في التوبة ، بل يقتضي توبة منها .

                                                                                                                                                                        ومن تاب عن معصية ثم ذكرها قال الإمام القاضي أبو بكر بن الباقلاني - رحمه الله - : يجب عليه تجديد الندم عليها كلما ذكرها إذ لو لم يندم ، لكان مستهينا بها ، وذلك ينافي الندم . واختار إمام الحرمين أنه لا يجب ، ولا يلزم من ذكرها بلا ندم الاستهانة ، بل قد يذكر ، ويعرض عنها .

                                                                                                                                                                        قال القاضي : وإذا لم يجدد التوبة كان ذلك معصية جديدة ، والتوبة الأولى صحيحة ؛ لأن العبادة الماضية لا ينقضها شيء بعد فراغها ، قال : فيجب تجديد توبة عن تلك المعصية ، وتجب توبة من ترك التوبة إذا حكمنا بوجوبها . قال الإمام : وإذا أسلم الكافر ، فليس إسلامه توبة عن كفره ، وإنما توبته ندمه على كفره ، ولا يتصور أن يؤمن ولا يندم على كفره ، بل تجب مقارنة الإيمان للندم على الكفر ، ثم وزر الكفر يسقط بالإيمان ، والندم على الكفر بالإجماع ، هذا مقطوع ، وما سواه من ضروب التوبة ، فقبوله مظنون غير مقطوع به ، وقد أجمعت الأمة على أن الكافر إذا أسلم وتاب عن كفره ، صحت توبته ، وإن استدام معاصي أخر ، هذا كلام الإمام ، وهذا الذي قاله أن القبول مظنون هو الصحيح . وقال جماعة من متكلمي أصحابنا : هو مقطوع . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 251 ]

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية