فصل
ادعى ورثة ميت دينا أو عينا لمورثهم ، فإنما يحكم على المدعى عليه إذا ثبت لهم ثلاثة أشياء : الموت والوراثة والمال ، والأول والثاني لا مدخل فيهما للشاهد واليمين ، بل لا يثبتان إلا بشاهدين أو إقرار المدعى عليه ، وأما المال ، فيدخله الشاهد واليمين ، فإن حضر جميع الورثة وهم كاملون ، وأقاموا شاهدا وحلفوا معه استحقوا ، والمأخوذ تركة يقضى منها ديون الميت ووصاياه ، وإن امتنع جميعهم وعلى الميت دين ، فهل للغريم أن يحلف ؟ ذكرنا في التفليس فيه قولين ، الجديد الأظهر المنع ، ويجريان فيما لو كان أوصى لرجل ، ولم يحلف الورثة ، هل يحلف الموصى له ؟ فإن كانت الوصية بعين وادعاها في يد أجنبي فينبغي أن لا يكون فيه خلاف ، ويقطع بالجواز ، فإن حلف بعض الورثة دون بعض ، أخذ الحالف نصيبه والنص أنه لا يشاركه فيه من لم يحلف ، ونص في كتاب الصلح أنهما لو ادعيا دارا إرثا ، فصدق المدعى عليه [ ص: 281 ] أحدهما في نصيبه شاركه المكذب ، فخرج بعضهم من الصلح هنا قولا أن ما أخذه الحالف يشاركه فيه من لم يحلف ؛ لأن الإرث يثبت على الشيوع .
وقطع الجمهور بأن لا شركة هنا ، كما نص ، والفرق من وجهين حكاهما الإمام ، أحدهما : أن صورة الصلح مصورة في عين ، وأعيان التركة مشتركة بين الورثة ، والمصدق معترف بأنه من التركة ، والصورة هنا في دين ، والدين إنما يتعين بالتعيين والقبض ، فالذي أخذه الحالف يتعين لنصيبه بالقبض ، فلم يشاركه الآخر فيه ، فعلى هذا لو كانت صورة الصلح في دين ، لم تثبت الشركة . ولو فرض شاهد ويمين بعض الورثة في عين ، تثبت الشركة .
والفرق الثاني وهو الذي ذكره الجمهور أن الثبوت هنا بشاهد ويمين ، فلو أثبتنا الشركة لملكنا الناكل بيمين غيره وهناك ثبت بإقرار المدعى عليه ، ثم ترتب عليه إقرار المصدق بأنه إرث ، فعلى هذا لا فرق بين العين والدين ، ولا في صورة إقرار المدعى عليه ، وأشار في " الوسيط " إلى تخريج خلاف في مسألة الصلح بما نحن فيه ، ولا يعرف هذا لغيره ، وهل يقضى من نصيب الحالف جميع الدين أم بالحصة ؟ قال في " الشامل " يبنى على أن الغريم هل يحلف ؟ إن قلنا : نعم لم يلزمه إلا قضاء حصته ، وإن قلنا : لا ، بني على أن من يحلف من الورثة هل يشارك الحالف إن قلنا : نعم قضى الجميع ، لأنا أعطيناه حكم التركة وإلا فبالحصة . هذا حكم نصيب الحالف ، أما من لم يحلف ، فإن كان حاضرا كامل الحال ، ونكل عن اليمين ، ذكر الإمام أن حقه يبطل بالنكول ، ولو مات ، لم يكن لوارثه أن يحلف .
وفي كتاب ما ينازع فيه . قال الإمام : ولو أراد وارثه أن يقيم شاهدا آخر ليحلف معه ، لم يكن له أيضا ، لكن هل يضم هذا الشاهد إلى الشاهد الأول ، ليحكم بالبينة ؟ فيه احتمالان [ ص: 282 ] جاريان فيما لو أقام مدع شاهدا في خصومة ، ثم مات ، فأقام وارثه شاهدا آخر ، فيجوز أن يقال : له البناء عليه ، ويجوز أن يقال : عليه تجديد الدعوى ، وإقامة البينة ، وأنه لو أقام الورثة شاهدا ، وحلف معه بعضهم ، ومات بعضهم قبل أن يحلف أو ينكل ، كان لوارثه أن يحلف ، لكن هل يحتاج إلى إعادة الدعوى والشاهد ؟ فيه التردد المذكور ، والأصح أنه لا يحتاج . ابن كج
وإن كان الذي لم يحلف صبيا أو مجنونا أو غائبا ، نص - رحمه الله - في المجنون أنه يوقف نصيبه . واختلفوا في معناه ، فقال الشافعي أبو إسحاق وعامة الأصحاب : المراد أنا نمتنع من الحكم في نصيبه ، ويتوقف حتى يفيق ، فيحلف أو ينكل ، ولا يؤخذ نصيبه وقيل : أراد أنه يؤخذ نصيبه ويوقف ، وهذا أحد قوليه أن الحيلولة هل تثبت بشاهد ؟ والصبي والغائب كالمجنون .
وينبغي أن يكون الحاضر الذي لم يشرع في الخصومة ، أو لم يشعر بالحال ، كالمجنون في بقاء حقه بخلاف ما سبق في الناكل ، فإن قلنا بالصحيح وهو أنه لا يؤخذ نصيب المعذورين ، فإذا زال عذرهم حلفوا وأخذوا نصيبهم ، ولا حاجة إلى إعادة الشهادة بخلاف ما لو كانت الدعوى لا عن جهة الإرث ، بأن قال : أوصى لي ولأخي الغائب أو الصبي أبوك بكذا ، أو اشتريت مع أخي الغائب منك كذا ، وأقام شاهدا ، وحلف معه ، فإنه إذا قدم الغائب ، وبلغ الصبي يحتاجان إلى تجديد الدعوى وإعادة الشهادة أو شاهد آخر ، ولا يؤخذ نصيبهما قبل ذلك ؛ لأن الدعوى في الميراث عن شخص واحد وهو الميت ، وكذلك يقضى دينه من المأخوذ ، وفي غير الميراث الدعوى وألحق الأشخاص ، [ ص: 283 ] فليس لأحد أن يدعي ويقيم البينة عن غيره بغير إذن أو ولاية .
ثم ما ذكرنا في الميراث أنه لا حاجة إلى إعادة الشهادة مفروض فيما إذا لم يتغير حال الشاهد ، فإن تغير ، فوجهان ، أحدهما وبه قال القفال : لا يقدح وللصبي والمجنون والغائب إذا زال عذرهم أن يحلفوا ؛ لأنه قد اتصل الحكم بشهادته ، فلا أثر للتغير ، والثاني ، وهو اختيار الشيخ أبي علي : لا يحلفون ؛ لأن الحكم اتصل بشهادته في حق الحالف فقط ، ولهذا لو رجع الشاهد لم يكن لهم أن يحلفوا ، ولو مات الغائب أو الصبي ، فلوارثه أن يحلف ويأخذ حصته ، فإن كان وارثه هو الحالف ، لم تحسب يمينه الأولى .
ولو ادعى شخص على ورثة رجل أن مورثكم أوصى لي ولأخي ، أو ولأجنبي بكذا ، وأقام شاهدا ، وحلف معه ، وأخذ نصيبه ، لم يشاركه الآخر فيه بلا خلاف ، ثم ذكر الشيخ أبو الفرج أن من يحلف من الورثة على دين أو عين للمورث يحلف على الجميع لا على حصته فقط ، سواء حلف كلهم أو بعضهم ، وكذا الغريم والموصى له إذا قلنا : يحلفان ، وفي كلام غيره إشعار بخلافه .
وجميع ما ذكرناه فيما إذا أقام بعض الورثة شاهدا واحدا ، وحلف معه ، فأما إذا أقام بعضهم شاهدين ، فإنه يثبت المدعى كله ، فإذا حضر الغائب من الورثة ، أو بلغ صبيهم ، أو عقل مجنونهم ، أخذ نصيبه ، ولا حاجة إلى تجديد الدعوى وإقامة البينة ، وينتزع القاضي بعد تمام البينة نصيب الصبي والمجنون ، دينا كان أو عينا ، ثم يأمر بالتصرف فيه بالغبطة كيلا يضيع عين ماله ، وأما نصيب الغائب ، فإن كان عينا انتزعها ، وكلام الأصحاب يقتضي أن هذا الانتزاع واجب وهو الظاهر ، لكن سبق في باب الوديعة أن الغاصب لو حمل المغصوب إلى القاضي والمالك غائب ، ففي وجوب قبوله وجهان ، فيجوز أن يعود ذلك الخلاف هنا مع قيام البينة ، وإن [ ص: 284 ] كان المدعى دينا ، ففي انتزاع نصيب الغائب وجهان جاريان فيمن أقر لغائب بدين ، وحمله إلى القاضي ، هل على القاضي أن يستوفيه ، والأصح في الصورتين عدم الوجوب ، وحكاه في مسألتنا عن النص . ابن كج
واعلم أنه سبق في كتاب الشركة أن أحد الوارثين لا ينفرد بقبض شيء من التركة ، ولو قبض شاركه الآخر فيه ، وقالوا هنا : يأخذ الحاكم نصيبه ، كأنهم جعلوا غيبة الشريك عذرا في تمكين الحاضر من الانفراد ، ولو ادعى على رجل أن أباه أوصى له ولفلان بكذا ، وأقام شاهدين وفلان غائب أو صبي ، لم يؤخذ نصيب فلان بحال ، وإذا حضر وبلغ فعليه إعادة الدعوى والبينة لما ذكرنا أن الدعوى في الإرث لشخص واحد .
فرع
لو كان للوارث الغائب وكيل وقد أقام الحاضر البينة ، قال أبو عاصم : يقبض الوكيل نصيب الغائب دون القاضي ، فإن لم يكن ، قبض القاضي ، ويؤجر لئلا تفوت المنافع .