الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد قال في صفة المهاجرين : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [الحشر :8] ، فوصف المهاجرين بأنهم ينصرون الله ورسوله . لكن الأنصار كانوا في ديارهم وأموالهم ، وهم مجتمعون متناصرون ، فكانوا أكمل في وصف النصر ، إذ كانوا أقدر عليه . والمهاجرون ما قدروا على النصر إلا بهم . ويوم بدر كان ثلاثة أرباع البدريين من [ ص: 223 ] الأنصار ، ويوم أحد أكثر القتلى كانوا من الأنصار ، والقراء السبعون الذين قنت لأجلهم أكثرهم من الأنصار ، ويوم السقيفة ، ويوم مسيلمة أكثر القتلى من الأنصار ، وكانوا أكمل بهذا الوصف فخصوا به . وإلا فالنصرة هي الجهاد ، والمهاجرون مجاهدون ، ومقصود الهجرة هجر السيئات ، والأنصار هجروا السيئات . فلهذا كان قوله : الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم [التوبة :20] يتناول الطائفتين ، ويتناول كل من اتصف بذلك إلى يوم القيامة .

وهذا كنظائره إذا ذكر الاسم مفردا يتناول النوعين ، وإذا ذكر مقرونا عطف أحدهما على الآخر ، كلفظ الإيمان والعمل ، والإيمان والإسلام ، ولفظ البر والتقوى ، والمنكر والفحشاء ، وأمثال ذلك كما بسط في مواضع . فلما ذكر لفظ الأنصار مفردا في قوله : كونوا أنصار الله يتناول الطائفتين ، ولما ذكر الهجرة والجهاد مقرونا تناول الطائفتين ، وإذا جمع بينهما في مثل قوله : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان [التوبة :100] ميز بينهما . وكذلك في قوله : إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض [الأنفال :72] . ألا ترى أن الذين آووا ونصروا هم أيضا آمنوا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم [ ص: 224 ] وأنفسهم ، لكن ذكروا بأخص أوصافهم ، وهما الإيواء والنصر ، فإن هذا امتازوا به . ثم قال : والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم [الأنفال :74] ، ثم قال : والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم [الأنفال :75] . قالت طائفة من السلف : هذه تتناول المؤمنين إلى يوم القيامة ، كما في سورة الحشر : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان [الحشر :10] .

وهؤلاء التابعون وصفهم بالإيمان والهجرة والجهاد ، لأن الناس يكثرون والأنصار يقلون ، وما بقي بالنسبة إلى أولئك دار يؤوون إليها الرسول وأصحابه . لكن هذا المعنى ثابت لكل من هوجر إليه من المؤمنين فآووا من هاجر إليهم ونصروه ، كما أنه قد قال : «لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية » ، أي من أرض مكة وأرض العرب ، لأنها صارت دار إسلام . وقد قال : «لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو » أي من دار الكفر ، وكذلك النصرة والجهاد لا يزال مأمورا به إلى يوم [ ص: 225 ] القيامة . وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع .

التالي السابق


الخدمات العلمية