الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما المسلم الجاهل فهو أبعد ، لكن ينبغي أن يكون كذلك ، فليس هو شرا من الكافر . وقد ذكر فيما يتركه المسلم الجاهل من الواجبات التي لم يعرف وجوبها هل عليه قضاء ؟ قولان ، أظهرهما أنه لا قضاء عليه .

وأصل ذلك أن حكم الخطاب هل يثبت في حق المسلم قبل بلوغ الخطاب ؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره . ولأحمد روايتان فيما إذا صلى في معاطن الإبل ، أو صلى وقد أكل لحم الجزور ، ثم تبين له [ ص: 274 ] النص ، هل يعيد ؟ على روايتين . وقد نصرت في موضع أنه لا يعيد ، وذكرت على ذلك أدلة متعددة :

منها : قصة عمر وعمار لما كانا جنبين ، ولم يصل عمر ، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة .

ومنها : أبو ذر لم يأمره أيضا بالإعادة .

ومنها : المستحاضة التي قالت : منعتني الصوم والصلاة .

ومنها : الأعرابي المسيء في صلاته ، الذي قال : والله ما أحسن غير هذا . فأمره أن يعيد الصلاة الحاضرة ؛ لأن وقتها باق وهو مأمور بها ، ولم يأمره بإعادة ما صلى قبل ذلك .

ومنها : الذين أكلوا حتى تبين لهم الخيط الأبيض والأسود ، ولم يؤمروا بالإعادة . [ ص: 275 ]

والشريعة أمر ونهي ، فإذا كان حكم الأمر لا يثبت إلا بعد بلوغ الخطاب وكذلك النهي ، فمن فعل شيئا لم يعلم أنه محرم ، ثم علم لم يعاقب . وإذا عامل معاملات ربوية يعتقدها جائزة وقبض منها ما قبض ، ثم جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ، ولا يكون شرا من الكافر ، ولو كان قد باع خمرا أو حشيشة أو كلبا لم يعلم أنها حرام وقبض ثمنها . وسمرة لما باع وقبض ثمنها قال عمر : قاتل الله سمرة! ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه ؟ » .

وكانوا يقبضون الخمر جزية عن أهل الذمة ثم يبيعونهم إياها ، فقال عمر : ولوهم بيعها ثم خذوا ثمنها . وما قبضه سمرة لم يذكر أن عمر أمر برده ، وكيف يرده وقد أخذوا الخمر ، ولا نهاه عن الانتفاع به ؟ وذلك أن هذا الذي قبضه قبل أن يعلم أنه محرم لا إثم عليه في قبضه ، فإنه لم يكن يعلم أنه محرم ، والكافر إذا غفر له قبضه لكونه قد تاب ، فالمسلم أولى بطريق الأولى .

والقرآن يدل على هذا بقوله : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف [البقرة :275] ، وهذا عام في كل من جاءه موعظة من ربه ، فقد [ ص: 276 ] جعل الله له ما سلف . ويدل على أن ذلك ثابت في حق المسلم ما بعد هذا : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ، فأمرهم بترك ما بقي ، ولم يأمرهم برد ما قبضوه ، فدل على أنه لهم مع قوله : فله ما سلف وأمره إلى الله ، والله يقبل التوبة عن عباده .

فإذا قيل : هذا مختص بالكافرين .

قيل : ليس في القرآن ما يدل على ذلك ، إنما قال : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ، وهذا يتناول المسلم بطريق الأولى . وعائشة قد أدخلت فيه المسلم في قصة زيد بن أرقم لما قالت لأم ولده : بئس ما شريت ، وبئس ما اشتريت ، أخبري زيدا أنه قد حبط جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب . فقالت : يا أم المؤمنين ، أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي ؟ فقالت عائشة : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله .

بل قد يقال : إن هذا يتناول من كان يعلم التحريم إذا جاءته موعظة من ربه فانتهى ، فإن الله يغفر لمن تاب بتوبته ، فيكون ما مضى من الفعل وجوده كعدمه ، والآية تتناوله : فله ما سلف وأمره إلى الله ، ويدل على ذلك قوله بعد هذا : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن [ ص: 277 ] كنتم مؤمنين إلى قوله : وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم . والتوبة تتناول المسلم العاصي كما تتناول الكافر ، ولا خلاف أنه لو عامله بربا يحرم بالإجماع لم يقبض منه شيئا ، ثم تاب ، أن له رأس ماله ، فالآية تناولته ، وقد قال فيها : اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ، ولم يأمر برد المقبوض ، بل قال قبل ذلك : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف .

وهذا وإن كان ملعونا على ما أكله وأوكله ، فإذا تاب غفر له . ثم المقبوض قد يكون اتجر فيه وتقلب ، وقد يكون أكله ولم يبق منه شيء ، وقد يكون باقيا ، فإن كان قد ذهب وجعل دينا عليه كان في ذلك ضرر عظيم ، وكان هذا منفرا عن التوبة ، وهذا الغريم يكفيه إحسانا إليه إسقاطه ما بقي في ذمته وهو برضاه أعطاه ، وكلاهما ملعون .

ولو فرض أن رجلا أمر رجلا بإتلاف ماله وأتلفه لم يضمنه وإن كانا ظالمين ، وكذلك إذا قال : اقتل عبدي . هذا هو الصحيح ، وهو المنصوص عن أحمد وغيره . فكذلك هذا هو سلط ذاك على أكل هذا المال برضاه ، فلا وجه لتضمينه وإن كانا آثمين ، كما لو أتلفه بفعله ، إذ لا فرق بين أن يتلفه بأكله أو بإحراقه ، بل أكله خير من إحراقه ، فإن لم يضمنه في هذا بطريق الأولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية