الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الثامنة : في ضبط ما يحلف به ، وفيه طريقان ، إحداهما وهي أقصرهما : أن اليمين ينعقد إذا حلف بما مفهومه ذات الباري سبحانه وتعالى ، أو صفة من صفاته ، والثانية وهي أقرب إلى سياق " المختصر " : أنها لا تنعقد إلا إذا حلف بالله ، أو باسم من أسمائه ، أو صفة من صفاته ، وأراد بالقسم الأول أن يذكر ما يفهم منه ذات الله تعالى ولا يحتمل غيره من غير أن يأتي باسم مفرد ، أو مضاف من أسمائه الحسنى ، وذلك كقوله : والذي أعبده ، أو أسجد له ، أو أصلي له ، والذي فلق الحبة ، أو نفسي بيده ، أو مقلب القلوب فتنعقد يمينه ، سواء أطلق أو نوى الله سبحانه وتعالى أو غيره ، وإذا قال قصدت غيره ، لم يقبل ظاهرا قطعا ، وكذا لا يقبل أيضا فيما بينه وبين الله على الصحيح المعروف في المذهب ، وحكي فيه وجه ضعيف . وأما القسم الثاني وهو الحلف بالأسماء ، فالأسماء ثلاثة أنواع : أحدها : ما يختص بالله تعالى ولا يطلق في حق غيره ، كالله والإله ، والرحمن ورب العالمين ، ومالك يوم الدين ، وخالق الخلق ، والحي الذي لا يموت ، والأول الذي [ ص: 11 ] ليس قبله شيء ، والواحد الذي ليس كمثله شيء ، فحكم الحلف به حكم القسم الأول ، وفي كتاب ابن كج : أنه ليس في الأسماء صريح في الحلف إلا بالله ، وهذا غريب ضعيف .

                                                                                                                                                                        النوع الثاني : ما يطلق في حق الله وفي حق غير الله تعالى ، لكن الغالب استعماله في حق الله تعالى وأنه يقيد في حق غيره بضرب تقييد ، كالجبار والحق والرب والمتكبر والقادر والقاهر ، فإن حلف باسم منها ونوى الله تعالى أو أطلق فيمين ، وإن نوى غير الله تعالى فليس بيمين والخالق والرازق والرحيم من هذا النوع على الصحيح ، وبه قطع الجمهور ، وقيل من الأول .

                                                                                                                                                                        النوع الثالث : ما يطلق في حق الله تعالى وفي حق غيره ولا يغلب استعماله في أحد الطرفين كالحي والموجود والمؤمن والكريم والغني وشبهها ، فإن نوى به غير الله تعالى ، أو أطلق فليس بيمين ، وإن نوى الله تعالى ، فوجهان : أحدهما يمين ، وبه قطع صاحبا " المهذب " و " التهذيب " ، وفي شرح الموفق بن طاهر أن صاحب " التقريب " وأبا يعقوب قطعا به ، ونقلاه عن شيوخ الأصحاب ، والثاني وهو الأصح وبه أجاب الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وسائر العراقيين والإمام والغزالي : لا يكون يمينا ، لأن اليمين إنما تنعقد باسم معظم ، والأسماء التي تطلق في حق الخالق والمخلوق إطلاقا واحدا ليس لها حرمة ولا عظمة .

                                                                                                                                                                        قلت : الأصح أنه يمين ، وبه قطع الرافعي في " المحرر " وصاحب " التنبه " والجرجاني وغيرهما من العراقيين لأنه اسم يطلق على الله وقد نواه ، وقولهم : ليس له حرمة مردود . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        والسميع والبصير أو العليم والحكيم من هذا النوع ، لا من الثاني على الأصح ، فقد عد البغوي العالم من هذا النوع .

                                                                                                                                                                        واعلم أن ابن كج [ ص: 12 ] نقل وجها أن الحلف بأي اسم كان من الأسماء التسعة والتسعين المذكورة في الحديث صريح ، ولا فرق بين بعضها وبعض ، وهذا غريب ، وأما القسم الثالث : فالحلف بالصفات . فمتكلم في صور :

                                                                                                                                                                        منها : إذا قال : وحق الله لأفعلن كذا ، فإن نوى به اليمين ، فيمين ، وإن نوى غيرها من العبادات وغيرها ، فليس بيمين ، وإن أطلق فوجهان ، أحدهما : ليس بيمين ، حكي عن المزني وأبي إسحاق ، واختاره الإمام والغزالي ، والصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور أنه يمين ، لأنه غلب استعماله في اليمين ، فتصير هذه القرينة صارفة للفظ إلى معنى استحقاق الإلهية والعظمة وقال المتولي : ولو قال وحق الله بالرفع ونوى اليمين فيمين ، وإن أطلق ، فلا ، وإن قاله بالنصب وأطلق فوجهان : والذي أجاب به البغوي المنع في النصب أيضا .

                                                                                                                                                                        ومنها : قوله وحرمة الله ، وهو كقوله وحق الله ، وقيل هو كقوله وعظمة الله ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                        ومنها : قوله وقدرة الله ، وعلم الله ، ومشيئة الله ، وسمع الله ، وبصر الله فهذه صفات قديمة ، فإن نوى بها اليمين ، أو أطلق انعقدت يمينه . وإن أراد بالعلم المعلوم ، وبالقدرة المقدور قبل قوله ، ولم يكن يمينا ، لأن اللفظ محتمل له ، ولهذا يقال في الدعاء : اغفر علمك فينا ، أي معلومك ، ويقال : انظر إلى قدرة الله أي مقدوره ، فيكون كقوله : ومعلوم الله ، ومقدوره ، وخلق الله ، وذلك ليس بيمين ، وبمثله أجاب الإمام في : إحياء الله تعالى ، وإن قال : وعظمة الله وكبرياء الله وعزته وجلاله وبقائه ، فالحكم كما في العلم والقدرة ، ولم يفرقوا بين الصفات المعنوية الزائدة على الذات وغيرها ، هذا هو المذهب الذي قطع به الجمهور في هذه الصفات ، وحكى الإمام وجهان : أن الحلف بهذه الصفات كالحلف بالله . حتى لو قال أردت غير اليمين ، لا يقبل ظاهرا ووجها أنه إن أراد [ ص: 13 ] غير اليمين ، يقبل في العلم والقدرة ، للاحتمال المذكور ، ولا يقبل في العظمة والجلال والكبرياء إذ لا يتخيل فيها مثل ذلك الاحتمال ، وضعف هذا ، وقال : قد يقال عاينت عظمة الله وكبرياءه ، ويريد مثل ذلك ، ومنها لو قال وكلام الله ، انعقدت يمينه ، قال البغوي : وكذا لو قال : وكتاب الله وقرآن الله ، قال إبراهيم المروزي : وكذا لو قال : والقرآن أو والمثبت في المصحف ، قال المتولي : وإن حلف بالمصحف نظر ، إن قال : وحرمة ما هو مكتوب فيه ، فهو يمين ، وكذا لو قال : وحرمة هذا المصحف ، لأن احترامه لما هو مكتوب فيه ، وإذا أراد الرق والجلد لم يكن يمينا .

                                                                                                                                                                        قلت : لم يتعرض لما إذا قال : والمصحف ، وأطلق ، وهو يمين ، صرح به بعض الأصحاب ، وبه أفتى الإمام أبو القاسم الدولعي خطيب دمشق ، من متأخري أصحابنا ، قال : لأنه إنما يقصد به الحلف بالقرآن المكتوب ومذهب أصحابنا وغيرهم من أهل السنة أن القرآن مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور ، ولا يقصد الحالف نفس الورق والمداد ، ويؤيده أن الشافعي - رضي الله عنه - ، استحسن التحليف بالمصحف ، واتفق الأصحاب عليه ، ولو لم ينعقد اليمين ، به عند الإطلاق لم يحلف به . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        ولو قال : والقرآن ، وأراد غير اليمين لم يكن يمينا ، فقد يراد بالقرآن الخطبة والصلاة .

                                                                                                                                                                        التاسعة : إذا قال : أقسم بالله ، أو أقسمت بالله ، أو أحلف بالله ، أو حلفت بالله فله أحوال : [ ص: 14 ] أحدها : أن يقول أردت بالأول الوعد بالحلف ، وبالثاني الإخبار عن ماض ، فيقبل باطنا ، وأما في الظاهر ، فإن علم له يمين ماضية قبل قوله في إرادتها بأقسمت وحلفت بلا خلاف ، وإلا فالنص أنه يقبل أيضا قوله في إرادة الوعد والإخبار ، وقال في الإيلاء : إذا قال : أقسمت بالله لا وطئتك ، ثم قال ، أردت يمينا ماضية لم يقبل ، وللأصحاب فيها ثلاثة طرق ، المذهب في أن في الإيلاء وسائر الأيمان قولين أظهرهما : القبول ، لظهور الاحتمال ، والثاني : المنع ، لظهوره في الإنشاء ، والطريق الثاني : القطع بالمنع ، وحمل ما ذكره هنا على القبول باطنا ، والثالث : تقرير النصين ، والفرق أن الإيلاء متعلق حق المرأة ، وحق الآدمي مبني على المضايقة ، وسائر الأيمان واجبها الكفارة ، وهي حق الله تعالى .

                                                                                                                                                                        الحال الثاني : أن يقول : أردت اليمين ، فيكون يمينا قطعا .

                                                                                                                                                                        الحال الثالث : أن يطلق ، فالمذهب عند الجمهور أنه يمين ، وخالفهم الإمام في الترجيح ، وقيل : وجهان ، وقيل : قولان ، وقيل : أقسم صريح ، بخلاف أقسمت ، وهو ضعيف .

                                                                                                                                                                        قلت : لو قال : آليت أو أؤلي ، فهو كحلفت أو أحلف ، ذكره الدارمي ، وهو ظاهر . - والله أعلم - .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية