الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          [ ص: 168 ] المسألة السابعة عشرة

          لا نعرف خلافا بين الأمة في أن الناسخ إذا كان مع جبريل عليه السلام لم ينزل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت له حكم في حق المكلفين ، بل هم في التكليف بالحكم الأول على ما كانوا عليه قبل إلقاء الناسخ إلى جبريل ، وإنما الخلاف فيما إذا ورد النسخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغ الأمة ، هل يتحقق بذلك النسخ في حقهم أو لا ؟

          فذهب بعض أصحاب الشافعي إلى الإثبات ، وبعضهم إلى النفي وبه قال أصحاب أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل ، وهو المختار .

          وبيانه أن النسخ له لازم ، وهو ارتفاع حكم الخطاب السابق وامتناع الخروج بالفعل الواجب أولا عن العهدة ، ولزوم الإتيان بالفعل الواجب الناسخ والإثم بتركه والثواب على فعله ، وهذه اللوازم منتفية ، ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم ، أما أن الحكم السابق لم يرتفع فهو أن المكلف يثاب على فعله [1] ويخرج به عن العهدة ، ويأثم بتركه له قبل بلوغ النسخ إليه [2] بالإجماع .

          ولهذا فإن أهل قباء لما بلغهم نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة استداروا والنبي صلى الله عليه وسلم اعتد لهم بالركعات التي أتوا بها بعد نزول النسخ قبل علمهم بالنسخ ولم ينكر عليهم .

          وأما أن الخطاب بالنسخ غير لازم للمكلف قبل البلوغ فبيانه بالنص والحكم .

          أما النص فقوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ، وقوله تعالى : ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) ، وقوله تعالى : ( وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا ) .

          وأما الحكم فهو أن المكلف لو فعل العبادة التي ورد بها الناسخ على وجهها كان آثما عاصيا غير خارج به عن العهدة ، كما لو صلى إلى الكعبة قبل بلوغ النسخ إليه ، ولو كان مخاطبا بذلك لخرج به عن العهدة ، ولما كان عاصيا بفعل ما خوطب به .

          [ ص: 169 ] وللمخالفين خمس شبه :

          الشبهة الأولى : أن المكلف متصرف بالإذن من الشارع ، فلزم رفعه برفع الشرع له وإن لم يعلم المكلف بالرفع ، كما لو عزل الموكل الوكيل عن التصرف فإنه لا ينعقد تصرفه بعد ذلك وإن لم يعلم بعزله .

          الثانية : أن النسخ إسقاط حتى لا يعتبر فيه رضا من يسقط عنه فلا يعتبر فيه علمه ، كالطلاق والعتق والإبراء .

          الثالثة : أن النسخ إباحة ترك الفعل بعد إيجابه أو إباحة فعله بعد حظره ، فلا يتوقف ذلك على علم من أبيح له كما لو قال لزوجته : " إن خرجت بغير إذني فأنت طالق " ثم أذن لها من حيث لا تعلم ، فإنه يثبت حكم الإباحة في حق الزوجة ولا يقع الطلاق بخروجها .

          الرابعة : أن نسخ الحكم إباحة ترك المنسوخ الذي هو حق الشارع فوجب أن يثبت قبل علم المباح له كما لو قال القائل : " أبحت ثمرة بستاني لكل من دخله " فإنه يباح لكل داخل وإن لم يعلم بذلك .

          الخامسة : أن رفع الحكم يتحقق بعد علم المكلف بالنسخ ، فرفعه إما أن يكون بعلمه أو بالنسخ ، والعلم غير مؤثر في الرفع فكان الرفع بالنسخ ، ولزم رفعه عند تحقق النسخ .

          والجواب عن الأولى : بمنع عزل الوكيل قبل علمه بالعزل .

          وعن الثانية : لم قالوا بأن النسخ إذا لم يتوقف على رضا المنسوخ عنه لا يتوقف على علمه ، ولا يلزم من عدم اعتبار العلم في صورة الاستشهاد عدم اعتباره في النسخ ، فإنه لا مانع أن يكون عدم اعتبار العلم ثم لعدم تضمنه رفع حكم خطاب سابق ، بخلاف ما نحن فيه فكان العلم مشترطا فيه لما ذكرناه .

          وعن الثالثة والرابعة : بمنع الحكم فيما ذكروه من صور الاستشهاد .

          وعن الخامسة : أن رفع الحكم بالنسخ مشروط بالعلم ، ولا تحقق للمشروط دون شرطه .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية