الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( قال الشافعي ) ومن أجاز شهادة أهل الذمة فأعدلهم عنده أعظمهم بالله شركا أسجدهم للصليب وألزمهم للكنيسة فقال قائل : فإن الله عز وجل يقول حين الوصية { اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم } ( قال الشافعي ) - والله أعلم - بمعنى ما أراد من هذا وإنما يفسر ما احتمل الوجوه ما دلت عليه سنة أو أثر عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مخالف له أو أمر اجتمعت عليه عوام الفقهاء فقد سمعت من يتأول هذه الآية على من غير قبيلتكم من المسلمين ويحتج فيها بقول الله عز وجل { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم } إلى { الآثمين } فيقول الصلاة للمسلمين والمسلمون يتأثمون من كتمان الشهادة لله فأما المشركون فلا صلاة لهم قائمة ولا يتأثمون من كتمان الشهادة للمسلمين ولا عليهم ( قال الشافعي ) وسمعت من يذكر أنها منسوخة بقوله تعالى { وأشهدوا ذوي عدل منكم } - والله أعلم - ورأيت مفتي أهل دار الهجرة والسنة يفتون أن لا تجوز شهادة غير المسلمين العدول ( قال الشافعي ) وذلك قولي ( قال الشافعي ) وقلت لمن يخالفنا في هذا فيجيز شهادة أهل الذمة ما حجتك في إجازتها ؟ فاحتج بقول الله عز وجل { أو آخران من غيركم } قلت له إنما ذكر الله جل ثناؤه هذه الآية في وصية مسلم في السفر أفتجيزها في وصية مسلم بالسفر قال : لا قلت : أو تحلفهم إذا شهدوا ؟ قال : لا قلت : ولم وقد تأولت أنها في وصية مسلم ؟ قال : لأنها منسوخة قلت فإن نسخت فيما أنزلت فيه فلم تثبتها فيما لم تنزل فيه ؟ فقال لي بعض الناس : فإنما أجزنا شهادتهم للرفق بهم ولئلا تبطل حقوقهم ( قال الشافعي ) وقلت له : كيف يجوز أن تطلب الرفق بهم فتخالف حكم الله عز وجل في أن الشهود الذين أمروا أن يقبلوا هم المسلمون ؟ ( قال الشافعي ) وقلت له : المذهب الذي ذهبت إليه خطأ من وجوه : منها أنه خلاف ما زعمت أنه حكم الله عز وجل من أن الشهادة التي يحكم بها شهادة الأحرار المسلمين وأنا لم نجد أحدا من أئمة المسلمين يلزم قوله أجاز شهادتهم ثم خطأ في قولك طلب الرفق بهم .

( قال ) وكيف قلت ؟ أرأيت عبيدا عدولا مجتمعين في موضع صناعة أو تجارة شهد بعضهم لبعض بشيء ؟ قال : لا تجوز شهادتهم ، قلت : إنهم في موضع لا يخلطهم فيه غيرهم قال وإن قلت فإن كانوا في سجن قال وإن قلت فأهل السجن والبدو الصيادون إن كانوا أحرارا غير معدلين ولا يخلطهم غيرهم شهد بعضهم لبعض ؟ قال : لا تجوز شهادتهم . قلت فإن قالوا لك : لا يخلطنا غيرنا وإن أبطلت شهادتنا ذهبت دماؤنا وأموالنا قال وإن ذهبت فأنا لم أذهبها قلت فإن قالوا فاطلب الرفق بنا بإجازة شهادة بعضنا لبعض ؟ قال لا أطلب الرفق لكم بخلاف حكم الله عز وجل فإن قالوا لك وما حكم الله ؟ تعالى قال الأحرار العدول [ ص: 154 ] المسلمون قلت فالعبيد العدول الذين يعتق أحدهم الساعة فتجيز شهادته أقرب من العدول في كتاب الله أم الذمي الذي يسلم فتجيز إسلامه قبل إجازة شهادته ؟ قال بل العبد العدل قلت فلم رددت الأقرب من شرط الله جل ذكره وأجزت الأبعد منه لو كان أحدهما جائزا جاز العبد ولم يجز الذمي أو الحر غير العدل ولم يجز الذمي وما من المسلمين أحد إلا خير من أهل الذمة وكيف يجوز أن ترد شهادة مسلم بأن تعرفه يكذب على بعض الآدميين وتجيز شهادة ذمي وهو يكذب على الله تبارك وتعالى ؟ ( قال الشافعي ) فقال قائل فإن شريحا أجاز شهادتهم فيما بينهم فقلت له أرأيت شريحا لو قال قولا لا مخالف له فيه مثله ولا كتاب فيه أيكون قوله حجة ؟ قال لا : قلت : فكيف تحتج به على الكتاب وعلى المخالفين له من أهل دار الهجرة والسنة ؟ ( قال الشافعي ) فإن احتج من يجيز شهادتهم بقول الله عز وجل { أو آخران من غيركم } فقال من غير أهل دينكم فكيف لم تجزها فيما ذكرت فيه من الوصية على المسلمين في السفر كيف لم تجزها من جميع المشركين وهم غير أهل إسلام ؟ أرأيت لو قال قائل إذا كان غير أهل الإسلام هم المشركون فجاز لك أن تجيز شهادة بعضهم دون بعض بلا خبر يلزم فأنا أجيز شهادة أهل الأوثان .

; لأنهم ليسوا بأهل كتاب نبذوه وبدلوه إنما ضلوا بأنهم وجدوا آباءهم على شيء فلزموه وأرد شهادة أهل الكتاب الذين أخبرنا الله عز وجل أنهم قد بدلوا ما الحجة عليهم ؟ فإن قال في أهل الكتاب من يصدق ويؤدي الأمانة ففي أهل الأوثان من يصدق ويؤدي الأمانة ويعف ( قال الشافعي ) ما علمت من خالفنا في الحكم بين أهل الكتاب إلا ترك فيه التنزيل والسنة لما روى فيه من الأثر والقياس عليه وما يعرفه أهل العلم ثم لم يمتنع أن جهل وخطأ من علم .

( قال الشافعي ) وقال لي منهم قائل فإذا حكمت بينهم أبطلت النكاح بلا ولي ولا شهود وهو جائز بينهم ؟ قلت : نعم قال : وتبطل بينهم ثمن الخمر والخنزير ؟ قلت : نعم قال : وإن قتله بعضهم لبعض أو غيرهم لهم لم تقض عليه بثمنه ؟ قلت : نعم قال فهي أموالهم أنت تقرهم يتمولونها . قال فقلت له إن إقرارهم يتمولونها لا يوجب علي أن أحكم لهم بها . قال : وكيف لا يجب عليك أن تحكم لهم بما تقرهم عليه قلت له : أما أقرهم على الشرك وأقر عليه أبناءهم ورقيقهم ؟ قال : بلى ، قلت : فلو أسلم بعض رقيقهم وحكمت عليه بالخروج من ملكه ألست أحمده على الإسلام وأجبر السيد على بيعه ولا أدعه يسترقه ولا أعيده إلى الشرك ؟ قال بلى قلت : أفلست أقررته على شيء ثم لم أحكم له بما أقررته عليه وقد كان في حال مقرا عليه ؟ قال : بلى قلت : أو ما أقره على حكم حكامه وأنا أعلم أنهم يحكمون بغير الحق ؟ قال بلى قلت ومن حكم بعضهم أن من سرق شيئا لرجل كان السارق عبدا للمسروق فأقرهم على ذلك إذا رضوه أفرأيت لو ترافعوا إلي الحكم بأن السارق عبد للمسروق قال : لا قلت : ومن حكم بعضهم أن ليس لرجل أن ينكح إلا امرأة واحدة لا يطلقها .

ومن حكم بعضهم أن ليس للمرأة أن تنكح إلا رجلا واحدا أفرأيت لو ترافعوا إلي ألزمتهم ذلك ؟ قال : لا قلت فأراك تقرهم على أشياء من أحكامهم إذا صاروا إليك لم تحكم لهم بها وحكمت عليهم حكم الإسلام .

( قال الشافعي ) وقلت لبعضهم : أرأيت إذا تحاكموا إليك وقد أربى بعضهم على بعض وذلك جائز عندهم ؟ قال أرد الربا قلت فإن تحاكموا إليك وقد نكح الرجل محرمه في كتاب الله قال أرد النكاح قلت : فإن تحاكم إليك مجوسيان وقد أحرق أحدهما لصاحبه غنما قد اشتراها بين يديك بمائة ألف [ ص: 155 ] وأربح فيها مائة ألف على أن يقذها لهم فوقذها كلها وتلك عنده ذكاتها فأحرقها أحدهم أو مسلم فقال قد أحرق هذا مالي الذي ابتعته بين يديك وأربحت فيه بمحضرك بمثل ما ابتعته به وهو مائة ألف ؟ قال لا يغرم شيئا قال ولم ؟ هذا مالي تقرني عليه مذ كنت وتجارتي أحرقها ؟ قال هذا حرام . قلت : فإن قال لك أرأيت الخمر والخنزير أحلال هما ؟ قال : لا قلت فإن قال فلم أجزت بيعهما عندك وحكمت على من استهلكهما بثمنهما إن كانا يتمولان وتقرهم على تمولهما وهما حرام ولم تحكم لي بثمن الميتة وهي تمول وقد كانت حلالا قبل قتلها عندك وجلدها حلال إذا دبغته ؟ وإن كانت الميتة والخنزير لم تكن حلالا قط عندك ولا يكون الخنزير حلالا بحال أبدا .

( قال الشافعي ) فقال لي بعضهم قولنا هذا مدخول غير مستقيم فما حجتك في قولك ؟ فوصفت له كتاب الله تبارك وتعالى أن نحكم بينهم بحكمه الذي أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام ثم حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي حكم به بين المسلمين في الرجم .

( قال الشافعي ) وقلت له : أخبرنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس أنه قال كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار تقرءونه محضا لم يشب ألم يخبركم الله عز وجل في كتابه أنهم حرفوا كتاب الله تبارك اسمه وبدلوا وكتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا { هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } ألا ينهاكم العلم الذي جاءكم عن مسألتهم ؟ والله ما رأينا أحدا منهم يسألكم عما أنزل الله إليكم وقلت له : أمرنا الله عز وجل بالحكم بينهم بكتاب الله المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم وأخبر أنهم قد بدلوا كتابه الذي أنزل وكتبوا الكتاب بأيديهم فقالوا { هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } .

( قال الشافعي ) وقلت له ترك أصحابك ما وصفنا من حكم الله عز وجل ثم حكم رسوله صلى الله عليه وسلم فإذا قيل لهم لم أقمتم الحدود على المعاهدين وإن لم يكونوا يرونها في دينهم وأبطلتم الحدود في قذف بعضهم بعضا وإن كانوا يرونها بينهم ؟ قالوا بأن حكم الله تبارك وتعالى على خلقه واحد وبذلك أبطلنا الزنا بينهم ونكاح الرجل حريمه في كتاب الله عز وجل وإن كان ذلك جائزا بينهم . فإذا قيل لهم فحكم الله عز وجل يدل على أن تحكم بينهم حكمنا في الإسلام قالوا : نعم فإذا قيل فلم أجزتم بينهم ثمن الخنزير وغرمتم ثمنه وليس من حكم الإسلام أن يجوز ثمن الحرام ؟ قالوا هي أموالهم وقد أبطلوا أموالهم بينهم .

( قال الشافعي ) فرجع بعضهم إلى قولنا وقال هذا قول مستقيم على كتاب الله عز وجل ثم سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم لا يختلف وأقام بعضهم على قولهم مع ما وصفت لك من تناقضه وسكت عن بعض للاكتفاء بما وصفت لك مما لم أصف . .

التالي السابق


الخدمات العلمية