الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت: وهذا هو القول بتماثل الأجسام، وأن تخصيص بعضها بالصفات دون بعض يفتقر إلى مخصص، والقول بتماثل الأجسام في غاية الفساد، والرازي نفسه قد بين بطلان ذلك في غير موضع. وهذا الذي أحال عليه ليس فيه إلا أن الجسم لا يكون اختصاصه بالحيز واجبا، بل جائزا. وبتقدير ثبوت هذا في التحيز لا يلزم مثله في سائر الصفات.

وما ذكره من الدليل لا يصح، وذلك أنه قال: (اختصاصه بذلك إن كان واجبا): فإما أن يكون الوجوب لنفس [ ص: 77 ] الجسمية، أو لأمر عرض للجسمية، أو لأمر الجسمية عرضت له، أو لأمر غير عارض لها، ولا معروض لها. والأول يوجب اشتراك الأجسام في تلك الصفة، وإن كان لعارض: فإما أن يكون ممتنع الزوال، وهو اللازم، أو ممكن الزوال، وهو العارض، فإن العرضي في اصطلاحهم أعم من العارض، فإن كان ممتنع الزوال: فإن كان الامتناع لنفس الجسمية عاد الإشكال الأول، وإن كان لغيرها أفضى إلى التسلسل، وإن كان لمعروض الجسمية لم يصح، لأن المعقول من الجسمية الذهاب في الجهات، فلو كان في محل لكان ذلك المحل يجب أن يكون ذاهبا في الجهات، فيكون محل الجسمية جسما، لأنه إن لم يكن ذاهبا في الجهات لم [ ص: 78 ] يكن له اختصاص بالحيز، فلا يعقل حصول الجسم المختص بالحيز في محل غير مختص بالحيز، وإذا كان محله ذاهبا في الجهات كان جسما، وحينئذ فالقول في اختصاصه بذلك الحال فيه كالقول في الحيز لا يجوز أن يكون للجسمية أو لوازمها، بل لأمر عارض ممكن الزوال، فيكون ذلك الحيز ممكن الزوال، وهو المقصود) .

قلت: ولقائل أن يقول: هذا الدليل مبني على تماثل الأجسام، وأكثر العقلاء على خلافه، وقد قرر الرازي في موضع آخر أنها مختلفة لا متماثلة. وهو مبني أيضا على الكلام في الصورة والمادة، ونحو ذلك مما ليس هذا موضع بسط الكلام فيه، لكن يبين فساده ببيان موضع المنع في مقدماته.

قوله: (إن كان الامتناع لغير الجسمية أفضى إلى التسلسل) ممنوع، فإن الأجسام إذا كانت مشتركة في مسمى الجسمية، وقد اختص بعضها بصفات أخرى، لم يجب في ذلك التسلسل، كما في سائر الأمور التي تشترك في شيء وتفترق في شيء، فالمقادير والحيوانات إذا اشتركت في مسمى القدر والحيوانية، واختص بعضها عن بعض بشيء آخر لازم له، لم يلزم التسلسل، سواء قيل بتماثل الأجسام أو اختلافها، فإنه إن قيل باختلافها كانت ذات كل واحد موصوفة بصفات لازمة لها لا توجد في الآخر، كسائر الحقائق المختلفة، وإن قيل بتماثلها كتماثل أفراد النوع، فالموجب لوجود كل فرد من تلك [ ص: 79 ] الأفراد هو الموجب لصفاته اللازمة له، لا تفتقر صفاته اللازمة له إلى موجب غير الموجب لذاته، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع، وبين فيه فساد ما يقوله المنطقيون: من أن اختلاف أفراد النوع إنما هو بسبب المادة القابلة، ونحو ذلك، فإنهم بنوه على أن للحقيقة الموجودة في الخارج سببا غير سبب وجودها، وهذا غلط لا يستريب فيه من فهمه، مع أنه لا حاجة بنا هنا إلى هذا، بل نقول: مجرد اشتراك الاثنين في كون كل منهما جسما أو متحيزا أو موصوفا أو مقدرا أو غير ذلك، لا يمنع اختصاص أحدهما بصفات لازمة له، وليس إذا احتاج اختصاصه بالحيز إلى سبب غير الجسمية المشتركة يلزم أن يكون ذلك المخصص له مخصص آخر، بل المشاهد خلاف ذلك، فإن اختصاص الأجسام المشهودة بأحيازها ليس للجسمية المشتركة، بل لأمر يخصها، هو من لوازمها، بمعنى أن المقتضى لذاتها هو المقتضى لذلك اللازم.

وأيضا، فقوله: (إن كان الامتناع لمعروض الجسمية فهو محال) ممنوع.

التالي السابق


الخدمات العلمية