الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما التسلسل في الآثار والشروط ونحو ذلك، ففيه قولان معروفان لأصناف الناس، وأما التسلسل في الفاعلين والعلل الفاعلة ونحو ذلك، فهذا ممتنع بلا ريب. [ ص: 145 ]

فإذا تبين هذا فنقول: لو كان جميع الموجودات ممكنا مفتقرا إلى فاعل غيره، فذلك الغير إن كان هو الغير الفاعل له، لزم كون كل منهما فاعلا للآخر، وهذا من الدور القبلي الممتنع باتفاق العقلاء، وإن كان ذلك الغير غيرا آخر، لزم وجود فاعلين ومفعولين إلى غير غاية، وإن شئت قلت: لزم مؤثرون كل منهم مؤثر في الآخر إلى غير غاية، وإن شئت قلت: لزم علل كل منها معلول للآخر إلى غير غاية. وكل من هؤلاء ممكن الوجود، مفتقر إلى غيره لا يوجد بنفسه.

فهنا سؤالان:

أحدهما: قول القائل: لم لا يجوز أن يكون المجموع واجبا بنفسه، وإن كان كل فرد من أفراده ممكنا بنفسه؟ وقد أجيب عن هذا بأنه يستلزم ثبوت واجب الوجود بنفسه مع أنه باطل أيضا، لأن المجموع هو الأجزاء المجتمعة مع الهيئة الاجتماعية، وكل من الأجزاء ممكن بنفسه والهيئة الاجتماعية عرض من الأعراض الذي لا يقوم بنفسه، فهو [ ص: 146 ] أيضا ممكن لنفسه بطريق الأولى، فكل من الأجزاء ومن الهيئة الاجتماعية ممكن لنفسه، فامتنع أن يكون هناك ما يقدر واجبا بنفسه.

وأيضا فإن ما توصف به الأفراد قد يوصف به المجموع، وقد لا يوصف، فإن كان اتصاف الأفراد به لطبيعة مشتركة بينها وبين المجموع، وجب اتصاف المجموع به، بخلاف ما إذا حدث للمجموع بالتركيب وصف منتف في الأفراد.

ومعلوم أن كل واحد واحد إذا لم يكن موجودا إلا بغيره، وهو فقير محتاج، فكثرة المفتقرات المحتاجات واجتماعها لا يوجب استغناءها، إلا أن يكون في بعضها معاونة للآخر، كالضعيفين إذا اجتمعا حصل باجتماعهما قوة، لأن كلا منهما مستغن عن غيره من وجه، محتاج إليه من وجه، وأما إذا قدر أن كلا منهما مفتقر إلى غيره من كل وجه، امتنع أن يحصل لهما بالاجتماع قوة أو معونة من أحدهما للآخر، إذ التقدير أن كل منهما ليس له شيء إلا من الآخر، وهذا هو الدور القبلي، دور الفاعلين والعلل الفاعلية والغائية، فلا يحصل لأحدهما من الآخر شيء، [ ص: 147 ] والتقدير أنه ليس له من نفسه شيء، فلا يحصل بالاجتماع وجود أصلا.

يبين هذا أن كل جزء فهو مفتقر من كل وجه إلى غيره، والمجموع أيضا مفتقر من كل وجه إلى الأفراد، فإنه أي فرد من الأفراد قدر عدمه لزم عدم المجموع، فليس في المجموع وجود يعطيه للأفراد، ولا لشيء من الأفراد وجود يعطيه للمجموع أو لغيره من الأفراد، وهذا بخلاف ما إذا اجتمعت آحاد العشرة، فإن كونها عشرة لا يحصل لأفرادها، كما أن كل فرد ليس وجوده مستفادا من اجتماع العشرة، فلما لم يكن كل من الأفراد وجوده من العشرة ولا من غيره من الأفراد، أمكن وجوده بنفسه، وأمكن أن يكون شرطا في وجود الفرد الآخر، وأن يكون الحكم الحاصل باجتماع العشرة لا يحصل لفرد فرد، فتبين أن مجموع الممكنات لا يكون إلا ممكنا، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.

التالي السابق


الخدمات العلمية