الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        الشرط الرابع: سماع كل من العاقدين لفظ الآخر:

        اختلف الفقهاء - رحمهم الله - في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

        القول الأول: يشترط لصحة عقد الهبة سماع كل من العاقدين لفظ الآخر، فلا يصح العقد إلا إذا سمع القابل لفظ الموجب، والموجب لفظ القابل.

        وبه قال الحنفية، وهو ظاهر قول المالكية.

        وتقدم أن شيخ الإسلام: يرى أن الهبة تنعقد بما دل عليه العرف.

        القول الثاني: لا يشترط لصحة الصيغة سماع كل من المتعاقدين لفظ الآخر، وإنما يكتفى بسماع من بقربه في مجلس العقد، وإذا تلفظ العاقد [ ص: 96 ] بصوت لا يسمعه من في المجلس عادة، لكن القابل سمعه لحدة في سمعه، أو لقوة الريح لم تصح الصيغة، ومن ثم لا يتم العقد.

        وبهذا قال الشافعية.

        القول الثالث: لا يشترط لصحة الصيغة وتمام العقد سماع كل من العاقدين لفظ الآخر، وإنما يكتفى بإسماع نفسه.

        وهذا قول عند الحنفية.

        الأدلة:

        أدلة القول الأول: (اشتراط السماع ) :

        استدل القائلون باشتراط سماع كل من المتعاقدين لفظ الآخر بالأدلة الآتية:

        (36 ) 1 - ما رواه البخاري ومسلم من طريق زرارة بن أبي أوفى، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا، أو يعملوا به".

        فدل على أن الشارع رتب الحكم على الكلام، وما لم يكن هناك سماع فليس كلاما.

        2 - أن معنى انعقاد العقد هو: ارتباط أحد الكلامين بالآخر على وجه يسمى باعتباره عقدا شرعيا يستعقب بعده الأحكام، ولا يكون ذلك إلا بوقوع [ ص: 97 ] كلام القابل جوابا معتبرا محققا لغرض كلام الموجب، ويسمع كل من العاقدين كلام صاحبه، وبدون السماع لا يحصل ارتباط.

        3 - أن الكلام من الكلم وهو الجرح، سمي به; لأنه يؤثر في نفس السامع، فتكليمه فلانا لا يحصل إلا بسماعه.

        4 - قياس عقد البيع ونحوه على اليمين، فلو حلف لا يكلم فلانا فناداه من بعيد بحيث لا يسمع، لا يحنث في يمينه; لأن شرط الحنث وجود الكلام منه ولم يوجد.

        5 - أن الكلام في العرف اسم لحروف منظومة دالة على ما في ضمير المتكلم، وذلك لا يكون إلا بصوت مسموع.

        6 - أن اللفظ من الأصوات المسموعة المدركة بالسمع لا بمحض التعقل، وإذا كان الأمر كذلك فلا يصح العقد إلا بسماع كل من العاقدين لفظ الآخر.

        7 - أن المتعاقدين إذا لم يسمع أحدهما كلام الآخر لم يحصل الإيجاب والقبول بالنسبة إليهما وإن وجدا صورة; لأن الإيجاب والقبول يحصلان بينهما بالتخاطب، فإذا لم يوجد السماع لم يحصل التخاطب.

        [ ص: 98 ] 8 - أن الرضا شرط لصحة العقد; لذا كان سماع كل من العاقدين لفظ الآخر شرطا ليتحقق رضاهما.

        دليل القول الثاني: (عدم اشتراط السماع ) :

        استدل القائلون بعدم اشتراط سماع كل من العاقدين لفظ الآخر، والاكتفاء بسماع من كان بقربهما في مجلس العقد:

        قياس عقد الهبة ونحوه على اليمين، فلو حلف لا يكلم فلانا فكلمه بصوت يسمعه عادة من كان في المجلس فقد حنث في يمينه، ولو لم يسمعه من وجه إليه الكلام؟.

        كما استدلوا على عدم صحة الصيغة إذا تكلم العاقد بصوت لا يسمع في العادة لكن العاقد الآخر سمعه، لحدة في سمعه أو لسبب آخر:

        بأن اللفظ في هذه الحالة مشابه لعدم التلفظ; لذا فلا يعد ما حدث بينهما من الكلام مخاطبة.

        دليل القول الثالث: (إسماع النفس ) :

        استدل القائلون بعدم اشتراط سماع كل من المتعاقدين لفظ الآخر، والاكتفاء بإسماع نفسه:

        بأن المصلي إذا قرأ في صلاته قراءة يسمع فيها نفسه أجزأه ذلك; لأن أدنى الجهر أن يسمع نفسه، فالشرط هو وجود الفعل منه، وهو النطق سواء سمع غيره أم لا.

        [ ص: 99 ] وقاسوا على هذا الأصل: كل ما يتعلق بالنطق كالطلاق والعتاق والاستثناء والإيلاء والبيع والهبة ونحوها، فمن نطق بالصيغة الدالة على تصرف من هذه التصرفات مسمعا نفسه ما نطق به ترتب على نطقه الأثر الشرعي، سواء سمع ذلك غيره أم لم يسمعه.

        ونوقش هذا الاستدلال: بأن جمع التصرفات المتعلقة بالنطق في زمرة واحدة أمر غير مسلم به; لأن بعض هذه التصرفات يشترط فيها رضا الطرف الآخر كالبيع والإجارة ونحوهما، وبعضها لا يشترط لها رضا الطرف الآخر كالطلاق واليمين ونحوهما.

        الترجيح:

        يظهر لي - والله أعلم - أن سماع كل من المتعاقدين لفظ الآخر شرط لصحة الهبة، فحديث النفس أو الكلام دون صوت مسموع لا تترتب عليه الأحكام الشرعية; لأن اللفظ إذا لم يكن مسموعا لم يكن هناك ارتباط بين الإيجاب والقبول، ومن ثم لا يتحقق من وجود الرضا الذي هو أصل صحة العقود.

        وإذا كان الأمر كذلك فليس السماع شرطا مقصودا لذاته، وإنما هو وسيلة للدلالة على الرضا.

        وأيضا فإن عرف الناس أنه لا بد من السماع لانعقاد العقد بالقول (والعادة محكمة ) .

        وهذا في حالة التعاقد بالكلام بين حاضرين فقط، أما لو كان التعاقد [ ص: 100 ] بطريقة أخرى من طرق التعبير الكتابة أو الإشارة أو المعاطاة، فلا يشترط السماع لعدم وجود اللفظ أصلا في هذه التعبيرات.

        فرع:

        نص الشافعية على عدم اشتراط القبول في مسائل:

        قال الشربيني: "ويستثنى من اعتباره - القبول - مسائل منها الهبة الضمنية: كأن يقول لغيره: أعتق عبدك عني، ففعل فيدخل في ملكه هبة، ويعتق عليه، ولا يحتاج للقبول.

        ومنها: ما لو وهبت المرأة نوبتها من ضرتها لم يحتج لقبولها على الصحيح.

        ومنها: ما يخلعه السلطان على الأمراء والقضاة وغيرهم لا يشترط فيه القبول كما بحثه بعض المتأخرين; لجريان العادة بذلك.

        ومنها: ما لو اشترى حلية لولده الصغير وزينه به، فإنه يكون تمليك له، بخلاف ما لو اشتراه لزوجته، فإنه لا يصير ملكا لها كما قاله القفال، والفرق بينهما: أن له ولاية على الصغير بخلاف الزوجة، كذا ذكرهالسبكي وتبعه ابن الملقن.

        ومنها: ما لو قال: اشتر لي بدراهمك لحما، فاشتراه، وصححناه للسائل، فإن الدراهم تكون هبة لا قرضا".

        [ ص: 101 ]

        التالي السابق


        الخدمات العلمية