الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 300 ] وقيل : لا يقاس على أصل مختلف فيه بحال ؛ لإفضائه إلى التسلسل بالانتقال ، ورد : بأنه ركن فجاز إثباته بالدليل كبقية الأركان .

                وأن لا يتناول دليل الأصل الفرع وإلا لاستغني عن القياس .

                وأن يكون معقول المعنى ، إذ لا تعدية بدون المعقولية .

                التالي السابق


                قوله : " وقيل : لا يقاس على أصل مختلف فيه بحال ، لإفضائه إلى التسلسل بالانتقال " ، يعني أنه إذا قاس على أصل مختلف فيه ، منعه الخصم ، فإن أثبته المستدل بقياس آخر ، جاز أن يكون مختلفا فيه أيضا ، فيمنعه الخصم ، ويفضي إلى الانتقال من مسألة إلى أخرى ، وينتشر الكلام ، ويتسلسل ، وإن أثبت الأصل بدليل غير القياس ، فربما كان ذلك الدليل مختلفا فيه كالمرسل والمفهوم ونحوه فيفضي إلى مثل ذلك .

                قوله : " ورد " ، أي : ورد هذا القول بأن الأصل " ركن " من أركان القياس ، " فجاز إثباته " عند النزاع فيه " بالدليل كبقية " أركانه من علة وحكم وغيرهما ، والانتقال من مسألة إلى مسألة إذا عاد بثبوت محل النزاع ، لم يمنع ؛ لأن المقصود إثباته ، وهما ساعيان فيه بتقرير مقدماته ، فهما بمثابة من يضرب اللبن ، ويعمل الطين ليبني جدارا ، وإنما ينكر هذا القاصرون الذين قلت موادهم ، فيرتبطون في محل النزاع لا يخرجون عنه ، ويسمونه انتشارا في الكلام وتفريقا له ، وليس كذلك . انتهى الكلام على الشرط الأول من شروط الأصل .

                [ ص: 301 ] الشرط الثاني : أن لا يكون دليل الأصل متناولا للفرع ، إذ لو تناول دليل الأصل الفرع ، لكان ثابتا بالنص ، واستغنى عن القياس .

                مثاله : لو قاس السفرجل على البر في تحريم الربا بجامع الطعم ، ثم استدل على أن العلة في البر الطعم بقوله - عليه السلام : لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل فإن هذا النص يتناول السفرجل ، فقياسه على البر تطويل ، وكذلك لو قاس الذمي على المعاهد في عدم العلة في الأصل بقوله - عليه السلام : لا يقتل مؤمن بكافر ، فإن هذا النص يتناول الصورتين ، فهو قياس منصوص على منصوص ، فلا يصح كقياس البر على الشعير ، والدراهم على الدنانير .

                الشرط الثالث : " أن يكون " الأصل " معقول المعنى ، إذ لا تعدية بدون المعقولية " ، أي : ما لا يعقل معناه ، لا يمكن القياس فيه ؛ لأن القياس تعدية حكم المنصوص عليه إلى غيره ، وما لا يعقل ، لا يمكن تعديته ، كأوقات الصلوات ، وعدد الركعات ، فلو قال قائل : الصبح إحدى الصلوات المكتوبة ، فوجب أن تكون أربعا كالعصر ، أو ثلاثا كالمغرب ، لم يصح ذلك ؛ لأن كون الظهر أو المغرب صلاة ليس هو المقتضي لكونها أربعا أو ثلاثا ، بل هذا تقدير شرعي لا نعقله . هذا الذي ذكر في " المختصر " من شروط الأصل .

                وقد ذكر الآمدي في " المنتهى " أن شروط حكم الأصل تسعة : [ ص: 302 ] أحدها : أن يكون شرعيا ، إذ لو لم يكن شرعيا ، لكان الحكم المتعدي إلى الفرع غير شرعي ، فلا يكون الغرض من القياس الشرعي حاصلا . قال النيلي في " شرح جدل الشريف " : فلو لم يكن حكم الأصل شرعيا بأن كان عقليا أو لغويا ، لما أفاد حكما شرعيا ، ولا عقليا ، ولا لغويا ؛ لأن اللغة لا تثبت قياسا على المذهب الصحيح ، وكذلك الحقائق العقلية .

                مثاله : لو قال : شراب مشتد ، فأوجب الحد كما أوجب الإسكار ، أو كما وجب تسميته خمرا ، فإن إيجابه الإسكار أمر معقول ، وتسميته خمرا أمر لغوي ، وإيجاب الحد أمر شرعي ، فلا يصح قياسه عليه . قال : وتظهر فائدته فيما إذا قاس النفي على النفي ، فإذا لم يكن المقتضي موجودا في الأصل ، كان الحكم نفيا أصليا ، والنفي الأصلي ليس من الشرع ، فلا يقاس عليه النفي الطارئ الذي هو حكم شرعي .

                قلت : معنى كون النفي الأصلي ليس من الشرع أنه لم يحدث بعد وجود الشرع ، بل هو قبله ، فلا يكون منه ، كما قالت المعتزلة في الإباحة : ليست حكما شرعيا لثبوتها قبل الشرع ، وليس المراد أن النفي ليس دليلا شرعيا حيث يحتاج إليه .

                الشرط الثاني : أن يكون دليل ثبوت حكم الأصل شرعيا ، إذ غير الشرعي لا يفيد الحكم الشرعي ؛ لأن الحكم نتيجة الدليل ، والنتيجة من جنس المنتج ، فلو قال : العالم مؤلف ، وكل مؤلف محدث ، فالخمر حرام ، لم يصح ؛ لأن المقدمتين عقليتان ، والنتيجة حكم شرعي .

                [ ص: 303 ] الشرط الثالث : أن يكون ثابتا غير منسوخ ، لأن حكم الفرع متوقف على حكم الأصل ، فلو نسخ ، لبطل ، فيمتنع بناء حكم الفرع عليه .

                الشرط الرابع : أن يكون حكم الأصل مما يقول به المستدل لتكون العلة معتبرة على أصله .

                الشرط الخامس : أن لا يكون حكم الأصل معدولا به سنن القياس بأن يكون غير معقول المعنى ، ولا نظير له في الشرع لتعذر التعدية . وذكر الغزالي أن هذا الكلام مجمل يحتاج إلى تفصيل ، وذكر تفصيله وأطال فيه .

                قلت : وذلك التطويل مستغنى عنه بأن يقال : ما عدل به عن سنن القياس إن لم يعقل معناه يصلح أن يكون مقصودا للشارع لكونه مناسبا لتحصيل مصلحة ، أو دفع مفسدة ، ووجد ذلك المعنى في محل آخر ، وغلب على ظن المجتهد جواز القياس ، فلا مانع منه .

                الشرط السادس : أن يقوم الدليل على تعليل حكم الأصل ، وعلى جواز القياس عليه . وحكى الغزالي الأول عن عثمان البتي ، والثاني عن قوم .

                قال الآمدي : وهو مختلف فيه ، والحق أنه إنما يشترط الدليل العام على ذلك ، لا في كل أصل بخصوصه .

                الشرط السابع : أن لا يكون الأصل فرعا لأصل آخر . قال : وهو مذهب أصحابنا والكرخي ، خلافا للحنابلة وأبي عبد الله البصري .

                قلت : هذا الشرط ذكر في " المختصر " ، وبينا أن القول بجواز إثبات [ ص: 304 ] الأصل بالقياس قول بعض أصحابنا ، وأن الصحيح خلافه .

                وبقي مما ذكروه شرطان آخران :

                الاتفاق على حكم الأصل ، وأن لا يتناول دليله الفرع . وقد ذكرا في " المختصر " . وقال - أعني الآمدي في " جدله " : شروط الأصل منها ما يرجع إلى حكمه ، ومنها ما يرجع إلى علته .

                وللقسم الأول شروط ستة :

                الأول : أن يكون شرعيا .

                الثاني : أن لا يكون متعبدا فيه بالعلم ، لأن القياس لا يفيد إلا الظن ، وحينئذ يتعذر القياس .

                قلت : وهذا فيه نظر ، إذ لا يمتنع أن يكون حكم الأصل مقطوعا به ، ثم تعدى إلى غيره بجامع شبهي ، فيكون حصوله في الفرع مظنونا ، وليس من ضرورة القياس أن يكون حكم الفرع مساويا لحكم الأصل ، إذ قد نصوا على التفاوت بينهما ، وإن حكم الفرع تارة يكون مساويا وتارة يكون أقوى ، وتارة أضعف . هذا إن كان القياس شبهيا ، وإن كان قياس العلة ، فنحن لا نقيس إلا إذا وجدت علة الأصل في الفرع ، وإذا وجدت فيه ، أثرت مثل حكم الأصل ، فيكون مقطوعا أيضا ، وكذلك قياس الدلالة ؛ لأن الدليل يفيد وجود المدلول ، فدلالة علة الأصل إذا وجدت في الفرع ، دلت على وجود العلة إذا كان تعليل الأصل قطعيا فيه ، فصار كقياس العلة .

                والصحيح في هذا ما قاله الإمام فخر الدين : إذا كان تعليل الأصل قطعيا [ ص: 305 ] ووجود العلة في الفرع قطعيا ، كان القياس قطعيا متفقا عليه .

                قلت : وإذا جاز ذلك ، جاز ورود التعبد بالقياس بالقطع . وحينئذ لا يكون ما ذكره الآمدي شرطا .

                الشرط الثالث : أن لا يكون معدولا به عن القياس ، إذ القياس عليه غير ممكن ، وذلك على ضربين :

                أحدهما : ما ورد غير معقول المعنى ، سواء كان مستثنى عن قاعدة عامة كتخصيص خزيمة بكماله ببينة عن قاعدة الشهادة ، أو كان مبتدأ به من غير استثناء كالمقدرات من الحدود ، والكفارات ، ونصب الزكوات ، وأعداد الركعات .

                الضرب الثاني : ما ورد الشرع به ولا نظير له معقولا أو غير معقول ، كاللعان والقسامة وضرب الدية على العاقلة وجواز المسح على الخفين ، فهذان الضربان منه لا يمكن القياس عليهما لعدم العلة ، أو لعدم النظير .

                الشرط الرابع : أن يكون متفقا عليه بين الخصمين أو بين جميع علماء الأمة كما سبق ، واختار في " المنتهى " أن المعترض إن كان مقلدا ، لم يشترط الإجماع ، إذ ليس له منع ما ثبت مذهبا لإمامه كما سبق ، وإن كان مجتهدا ، اشترط الإجماع ؛ لأن المجتهد ليس مرتبطا بإمام ، فإذا لم يكن الحكم مجمعا عليه أو منصوصا عليه ، جاز له أن يمنعه في الأصل ، فيبطل القياس ، أو بتعين علة لا تتعدى إلى الفرع كما سبق في سؤال التركيب . وهذا اختيار حسن جدا ، لكن وقوعه بعيد .

                [ ص: 306 ] الشرط الخامس : أن يكون طريق إثباته شرعيا .

                الشرط السادس : أن لا يكون منسوخا ، وإلا فالعلة المستنبطة منه تكون لاغية .

                قال : وقد اشترط له قوم شرطين آخرين :

                أحدهما : قيام الدليل على وجوب تعليله . الثاني : قيام الدليل على جواز القياس عليه . قال : وهما فاسدان . وقرر فيه نحو ما سبق في " المنتهى " وأنهم إن أرادوا قيام الدليل الظني الإجمالي العام على ذلك ، فهو حق ، وإلا فلا .

                أما القسم الثاني : وهو الشروط الراجعة إلى علة الأصل فستة أيضا :

                أحدها : أن يكون طريق إثباتها شرعيا كالحكم .

                الشرط الثاني : أن تكون ظاهرة جلية ، وإلا لم يمكن إثبات الحكم بها في الفرع على تقدير أن تكون أخفى منه أو مساوية له في الخفاء .

                قلت : الذي يظهر من كلامه أن العلة يجب أن تكون في الأصل أظهر منها في الفرع .

                وقول الأصوليين : القياس في معنى الأصل يقتضي استواء حالتها في المحلين .

                الشرط الثالث : أن تكون مطردة بحيث يساويها الحكم أين وجدت ، وذكر كلاما طويلا موضعه عند تخصيص العلة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى .

                الشرط الرابع : أن تكون متحدة في الأصل ، أي : لا يكون معها فيه علة [ ص: 307 ] أخرى ، وذكر كلاما طويلا موضعه عند ذكر تعليل الحكم بعلتين . وسيأتي إن شاء الله تعالى .

                الشرط الخامس : أن تكون مضبوطة بحيث لا تتخلف عنها حكمتها التي هي غاية إثبات الحكم ومقصوده ، وإلا فهي باطلة ، كمن ضبط حكمة القصاص وهي الصيانة عن التفويت بالجرح فقط ، إذ يلزم منه وجوب القصاص على من جرح ميتا مع تيقن عدم الحكمة المطلوبة .

                الشرط السادس : أن العلة إن كانت مستنبطة فشرطها أن لا تعود بإبطال ما استنبطت ، كما إذا استنبط من وجوب الشاة في الزكاة دفع حاجات الفقراء ، وسد خلاتهم ، فإن ذلك يوجب ترك النص المستنبط منه بتجويز أداء القيمة في الزكاة ، وإنما اشترط ذلك لئلا يفضي إلى ترك الراجح إلى المرجوح ، إذ الظن المستفاد من النص أقوى من المستفاد من الاستنباط .

                وقد ذكرت لك في حكم الأصل عبارات مختلفة يتكرر بعضها قصدا لإيضاح المذكور باختلاف العبارات ، فإنه محصل لذلك ، وذكرت شروط العلة مع شروط الأصل وإن كان موضعها في " المختصر " فيما بعد ؛ لأني ذكرت معنى كلامه على نحو ترتيبه ، وسأحيل على ما ذكرته هاهنا عند شروط العلة إن شاء الله تعالى .




                الخدمات العلمية