الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 71 ] قالوا : لو لم يشترط لما جاز للمجتهد الرجوع ، كعلي في بيع أم الولد ; ولما كان اتفاقهم على أحد القولين بعد اختلافهم إجماعا لتعارض الإجماعين على أحدهما ، وعلى تسويغ الأخذ بكل منهما ، واللازمان باطلان .

                وأجيب عن الأول : بمنع رجوع المجتهد بعد انعقاد الإجماع ، لأنه حجة عليه ، ورجوع علي أنكره عبيدة السلماني عليه ، ولا حجة في رجوعه لجواز ظنه ما ظننتم .

                وعن الثاني : بمنع أن اختلافهم تسويغ للأخذ بكل منهما إذ كل طائفة تخطئ الأخرى ، وتحصر الحق في جهتها ، والله أعلم .

                التالي السابق


                قوله : " قالوا : " يعني المشترطين لانقراض العصر احتجوا بوجهين :

                أحدهما : " لو لم يشترط " انقراض العصر " لما جاز للمجتهد الرجوع " عما وافق عليه المجمعين ، لاستقرار الإجماع قبل رجوعه ، فيكون محجوجا به ، لكن ذلك قد جاز ، ووقع ، وذلك يدل على اشتراط انقراض العصر ، وبيان وقوعه بصور :

                إحداهن : أن الصحابة أجمعوا في زمن عمر على أن أم الولد تعتق بموت سيدها ولا تباع ، ثم خالف علي بعد موت عمر ، وأجاز بيعها كالأمة ، كما [ ص: 72 ] كان حكمها قبل إجماعهم .

                الثانية : أن أبا بكر - رضي الله عنه - في خلافته سوى بين الناس في قسمة الفيء ، لاستوائهم في الإسلام ، ووقع الاتفاق على ذلك ، فلما ولي عمر ، فضل بينهم في ذلك بحسب فضائلهم من : سابقة هجرة ، أو غناء في الإسلام ، أو شرف فيه .

                الثالثة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر جلدا شارب الخمر أربعين ، وجلده عمر ثمانين ، فبان بهذه الصور أن للمجتهد الرجوع عما وقع عليه إجماع أهل عصره ، ويلزم ذلك اشتراط انقراض العصر .

                الوجه الثاني : لو لم يشترط انقراض العصر ، لما كان اتفاق المجمعين " على أحد القولين " في المسألة " بعد اختلافهم " فيها " إجماعا " إذ يلزم منه تعارض الإجماعين ، وهو باطل ، وملزوم الباطل باطل .

                وإنما قلنا : يلزم منه تعارض الإجماعين ; لأنهم إذا اختلفوا في مسألة على قولين ; فاختلافهم فيها إجماع منهم على تسويغ ذلك الخلاف ، وجواز الأخذ بكل واحد من القولين ، فإذا رجعوا إلى أحد القولين ، واتفقوا عليه ، صار ذلك القول مجمعا عليه وحده ، وصار ذلك إجماعا منهم على عدم تسويغ الخلاف ، وعدم جواز الأخذ بكل من القولين ، بل حصروا الحكم في أحد القولين ، وهو ما صاروا إليه آخرا ، فهذا الإجماع الثاني معارض للأول .

                [ ص: 73 ] وإنما قلنا : إن تعارض الإجماعين باطل ، لأن الإجماع معصوم قاطع ، والقواطع المعصومة لا تتعارض ، لأن تعارضها يوجب بطلان بعضها ، والباطل على القواطع المعصومة محال ، وهذا معنى قوله " لتعارض الإجماعين على أحدهما ، وعلى تسويغ الأخذ بكل منهما " لكن اتفاقهم على أحد القولين بعد اختلافهم في المسألة إجماع صحيح لا يلزم منه محال ، كاتفاق الصحابة على قتال مانعي الزكاة ، وعلى أن الأئمة من قريش ، وعلى تحريم المتعة ، وحصر الربا في النسيئة ، بعد الخلاف فيها ، ونظائره كثيرة ، وذلك إنما يصح بتقدير اشتراط انقراض العصر ، لأن الإجماع الأول إذن لم يستقر حتى يعارض الإجماع الثاني .

                قوله : " واللازمان باطلان " يعني : عدم جواز الرجوع للمجتهد بعد الوفاق ، لازم للقول بعدم اشتراط انقراض العصر . وقد بينا بطلانه ، فيبطل ملزومه ، وهو عدم اشتراط الانقراض ، وكذلك عدم كون اتفاقهم بعد الخلاف إجماعا ، لازم لعدم اشتراط الانقراض ، وقد بان بطلانه ، فيبطل ملزومه ، وهو عدم اشتراط الانقراض .

                قوله : " وأجيب عن الأول " أي : عن الوجه الأول من دليل الخصم وهو قولهم : " لو لم يشترط ، لما جاز للمجتهد الرجوع " وقد جاز " بمنع " جواز " رجوع المجتهد " أي : لا نسلم جواز رجوعه " بعد انعقاد الإجماع " بموافقته ، لأن الإجماع " حجة عليه " فصار كالمؤاخذ بإقراره .

                وأما رجوع علي عن تحريم بيع أم الولد ; فعنه جوابان :

                [ ص: 74 ] أحدهما : أن عبيدة السلماني أنكره عليه ، وذلك لأن عليا - رضي الله عنه - قال على المنبر : قد كان اتفق رأيي ورأي عمر على أن أم الولد لا تباع ، وقد رأيت الآن بيعها ، فقال له عبيدة السلماني : رأيك مع الجماعة خير لنا من رأيك وحدك ، فيقال : إن عليا قال له : لله درك ، ما أفقهك . وهذا يدل على أنه لم يستقر رجوعه ، وأنه عاود موافقة الجماعة .

                الجواب الثاني : بتقدير أن رجوعه استقر ، فلا حجة في رجوعه على اشتراط انقراض العصر ، لجواز أنه ظن ما ظننتموه من اشتراطه ، وليس كذلك ، بما ذكرناه من الأدلة .

                وأما رجوع عمر عن التسوية في قسمة الفيء ، فلا نسلم أنه كان وافق عليها ظاهرا حتى تكون مخالفته رجوعا .

                سلمنا موافقته ظاهرا ; لكن لا نسلم موافقته باطنا ، فلعله ما أظهر الخلاف إكراما لأبي بكر عن رد رأيه ، أو مهابة له ، كما قال ابن عباس في مسألة العول حين قيل له : أين كان رأيك هذا في زمن عمر رضي الله عنه ؟ [ ص: 75 ] فقال : هبته ، وكان امرأ مهيبا ، ثم لما ولي عثمان أظهر رأيه لعدم من يهابه .

                وأما ضربه لشارب الخمر ثمانين ; فلا نسلم أن ذلك رجوع عن الإجماع ، بل كان حد الشارب بأصل السنة أحد المقدارين : أربعين أو ثمانين ، بدليل حديث مسلم : أن عثمان لما أمر عليا بجلد الوليد بن عقبة في الخمر ; أمر علي عبد الله بن جعفر فجلده ، وعلي يعد عليه حتى بلغ أربعين ، فقال : أمسك ، ثم قال : جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين ، وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين ، وكل سنة ، وهذا أحب إلي . فقوله : وكل سنة ; يقتضي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد جاء في رواية البخاري أن عليا جلد الوليد ثمانين .

                [ ص: 76 ] قلت : ولا إشكال لأن هذا تضمن زيادة ، فيقبل ، ويحمل الأمر على أن عليا رأى جلده أربعين ، فأمسك عندها ، ثم رفع إلى عثمان ، فأمر بتكملة الثمانين موافقة لما أخذ به عمر ، لكن الذي يشكل على قولنا : إن حد الشارب كان بأصل السنة أحد المقدارين ; ما روى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أتي برجل قد شرب الخمر ، فضربه بجريدتين نحو الأربعين ، وفعله أبو بكر ، فلما كان عمر ، استشار الناس ، فقال عبد الرحمن بن عوف : كأخف الحدود ثمانين ، فأمر به عمر . رواه الترمذي وصححه ، وهو في الصحيحين ، ولو كانت الثمانون بأصل السنة ، لما احتاج عمر إلى مشاورة الناس فيه ، إذ خفاء ذلك عن الصحابة بعيد ، والله تعالى أعلم .

                سلمنا أن حد الشارب لم يكن بأصل السنة أحد المقدارين ، لكن لا نسلم أن الإجماع في زمن أبي بكر انعقد على نفي الثمانين ، بل على ثبوت الأربعين ، لحصول الزجر بها ، وكان نفي الثمانين من ثبوت الأربعين مفهوما عدديا ضعيفا ، فلما دعت المصلحة إلى إثبات الثمانين ، لتتابع الناس في الخمر ، فعله عمر ، ولم يكن بذلك مخالفا للإجماع ، ولا راجعا عنه .

                [ ص: 77 ] قوله : " وعن الثاني " أي : وأجيب عن الوجه الثاني من دليل الخصم وهو جواز اتفاق المجمعين بعد اختلافهم بأنا لا نسلم أن اختلافهم على قولين " تسويغ للأخذ بكل منهما " لأن " كل طائفة تخطئ الأخرى " في قولها الذي ذهبت إليه " وتحصر الحق في جهتها " . وحينئذ لا يوجد الإجماع على تسويغ الخلاف ، حتى يعارض الإجماع على عدمه باتفاقهم على أحد القولين ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .




                الخدمات العلمية