الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 78 ] السادسة : إذا اشتهر في الصحابة قول بعضهم التكليفي ولم ينكر فإجماع خلافا للشافعي .

                وقيل : حجة لا إجماع ، وقيل : في الفتيا لا الحكم ، وقيل : هما بشرط انقراض العصر ، وقيل : بشرط إفادة القرائن العلم بالرضا .

                لنا : يمتنع عادة السكوت عن إظهار الخلاف ، لا سيما من الصحابة المجاهدين في الحق الذين لا يخافون فيه لومة لائم .

                قالوا : يحتمل سكوته النظر ، والتقية ، والتصويب ، والتأخير لمصلحة ، أو ظن إنكار غيره ، أو خوف عدم الالتفات إليه ، فحمله على الرضا تحكم .

                قلنا : كل ذلك إذا قوبل بظاهر حالهم لم ينهض ، ولأنه يفضي إلى خلو العصر عن قائم بحجة ، ولأن غالب الإجماعات كذا ، إذ العلم بتصريح الكل بحكم واحد في واقعة واحدة متعذر .

                التالي السابق


                المسألة " السادسة : إذا اشتهر في الصحابة قول بعضهم التكليفي " أي : المتعلق بأحكام التكليف " ولم ينكر " أي : لم يظهر له منهم منكر ، فهو " إجماع " إلى آخره .

                اعلم أنه في " الروضة " فرض هذه المسألة في الصحابة ، وليس مختصا بهم ، بل هذه مسألة الإجماع السكوتي ، منهم ومن غيرهم من مجتهدي الأعصار ، ولكنها مقيدة بما إذا قال بعض الأمة قولا ، وسكت الباقون مع اشتهار [ ص: 79 ] ذلك القول فيهم ، وكان القول تكليفيا ، هل يكون ذلك إجماعا أم لا ؟ فلو لم يشتهر القول فيهم ، لم يدل سكوتهم على الموافقة ، ولو لم يكن تكليفيا ، لم يكن إجماعا ولا حجة ، لأن الإجماع أمر ديني ، وما ليس تكليفيا ، ليس دينيا بل دنيويا .

                فإذا اشتهر قول بعض الأمة التكليفي ، ولم يوجد له نكير ، فهو إجماع عند أحمد ، وبعض الحنفية ، والشافعية ، والجبائي ، لكنه اشترط فيه انقراض العصر لضعفه كما سبق " خلافا للشافعي " وإمام الحرمين حيث قالا : ليس بحجة ولا إجماع ، وهو أيضا قول داود وبعض الحنفية .

                " وقيل " : هو " حجة لا إجماع " أي : حجة ظنية ، وليس بإجماع يمتنع مخالفته ، وهو قول أبي هاشم ، واختيار الآمدي .

                " وقيل : في الفتيا " أي : هو إجماع في الفتيا " لا " في " الحكم " أي : إن كان ذلك القول فتيا من مفت ; كان مع سكوت الباقين عن إنكاره إجماعا ، وإن كان حكما من حاكم ، لم يكن إجماعا ، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة من الشافعية .

                والفرق بينهما : أن الحاكم قد يتخلف الإنكار عنه ، إما مهابة له ، أو لأن أحكامه تتبع اطلاعه على أحوال رعيته ، فربما حكم بحكم لأمر اختص بالاطلاع عليه ، فلا يقدم غيره على الإنكار عليه ، لقيام هذا الاحتمال ، وحينئذ سكوته لا يدل على الموافقة ، لجواز أن الحاكم أخطأ ظاهرا ، وأصاب [ ص: 80 ] باطنا ، فمنعه ذلك من الإنكار ، بخلاف المفتي ، فإنه لا يهاب الرد عليه ، بل عادة الفقهاء رد بعضهم على بعض ، وحكم الفقيه مستند إلى أدلة الشرع ، وهي ظاهرة لمن ينظر فيها ، لا إلى أمور باطنة يختص بها دون غيره .

                قوله : " وقيل : هما بشرط انقراض العصر " أي : وقيل : هو حجة وإجماع بشرط انقراض العصر من غير مخالف ، وهذا يرجع إلى قوله : " وقيل : بشرط " أي : هو إجماع بشرط " إفادة القرائن العلم بالرضا " أي : يوجد من قرائن الأحوال ما يدل على رضا الساكتين بذلك القول .

                وهذا أحق الأقوال ، لأن إفادة القرائن العلم بالرضا ، كإفادة النطق له ، فيصير كالإجماع النطقي من الجميع وهذا ينافي قول أبي هشام في أنه حجة لا إجماع ، لأن قوله مع عدم القرائن ، وهذا مع القرائن ، فيستويان ، والقول المذكور مع القرائن المفيدة للعلم ليس من هذه المسألة في شيء ، لأن القرائن إذا أفادت العلم برضا الساكتين ، لم يبق الخلاف في كونه إجماعا متجها ، وإنما الكلام في قول البعض ، وسكوت البعض ، مجردا عن القرائن ، وفيه الأقوال الخمسة الأول .

                " لنا : " أي : على أنه إجماع مطلقا أنه " يمتنع " في العادة " السكوت عن إظهار الخلاف " إذا لاح دليله " لا سيما من الصحابة ، المجاهدين في [ ص: 81 ] الحق ، الذين لا يخافون فيه لومة لائم " وإذا كان السكوت عن الخلاف ممتنعا في العادة ; وجب أن يكون السكوت دليل الرضا عادة ، فيكون القول المذكور معه إجماعا .

                قوله : " قالوا : " أي : المانعون لكونه إجماعا ، احتجوا بأن سكوت الساكت عن إظهار خلاف قول القائل " يحتمل " أمورا :

                أحدها : " النظر " في الدليل ، والتروي في الحكم ، إذ ليس كل أحد يستحضر الدليل بديهة ، ولا كل دليل يستحضر كذلك ، لتفاوت الأذهان في الإدراك ، والأحكام في الوضوح والخفاء .

                الثاني : " التقية " للقائل ، أي : يتقي سطوته مهابة له ، كما قال ابن عباس :

                هبته ، وكان امرأ مهيبا ، يعني عمر .

                الثالث : " التصويب " وهو أن يسكت لاعتقاده أن كل مجتهد مصيب ، وهذا القائل مجتهد ، فيكون مصيبا ، ولا يلزم من ذلك موافقة الساكت .

                الرابع : " التأخير لمصلحة " والمصالح التي يقدر عروضها ، ومناسبة تأخير الإنكار لها كثيرة ، كخوف إثارة فتنة ونحوه .

                الخامس : أنه سكت ظنا منه أن غيره قد أنكر فسقط الإنكار عنه ، لأن إنكار ما لا يجوز فرض كفاية ، فيسقط عن الجميع بفعل البعض كما سبق .

                السادس : أنه سكت مخافة أن لا يلتفت إلى إنكاره ، بأن ظهرت له [ ص: 82 ] أمارات ذلك فيضع منه ، خصوصا إن كان ذا منصب من غير نفع يحصل بالإنكار .

                وقد قال العلماء : إن بمثل ذلك يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وفي شبه ذلك قال الحارث بن هشام ، حين عوتب على فراره يوم بدر :


                الله يعلم ما تركت قتالهم حتى علوا فرسي بأشقر مزبد وعلمت أني إن أقاتل واحدا
                أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي



                ووجه سابع : وهو أن ، ينكر الساكت ، لكن لم ينقل إنكاره . وإذا كان السكوت يحتمل هذه الأمور " فحمله على الرضا تحكم " نادر ، لأنه احتمال من ثمانية احتمالات .

                قوله : " قلنا : " يعني في الجواب " كل ذلك " أي : كل هذه الاحتمالات إذا قوبلت " بظاهر حالهم " في ترك السكوت ، وجريان العادة ، واقتضاء الطباع إظهار ما يعتقده حقا ، لا ينهض في الدلالة على ما ذكرتم ، بل ما ذكرناه من [ ص: 83 ] ظاهر حالهم أغلب وأظهر ، واحتمال واحد قوي ، يظهر على كثير من الاحتمالات الخفية ، كما قيل : وواحد كالألف إن أمر عنا .

                " ولأنه " أي : ولأن ما ذكرتموه من عدم دلالة السكوت على الرضا " يفضي إلى خلو العصر عن قائم بحجة " الشرع ، وهو خلاف ظاهر قوله - عليه السلام - : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك مع أن الاحتمالات المذكورة ، إذا حقق أمرها على التفصيل بان ضعفها ، أو ضعف بعضها .

                قوله : " ولأن غالب الإجماعات كذا " . هذا دليل آخر على أن السكوت دليل الرضا .

                وتقريره : لو لم يدل سكوت الساكت على الرضا لتعذر وجود الإجماع بالأصالة ، أو تعذر وجوده غالبا ، لأن الإجماع النطقي عزيز جدا " إذ العلم بتصريح " كل واحد من المجتهدين " بحكم واحد ، في واقعة واحدة متعذر " لكن الإجماع موجود في كثير من مسائل الشرع الفرعية وغيرها ، وإنما كان ذلك بهذا الطريق ، وهو قول البعض وإقرار البعض .

                وفي المسألة دليلان آخران :

                وهو أن إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما سمعه أو يراه دليل على رضاه وتصويبه ، فكذلك سكوت المجتهدين وإقرارهم ، لأنهم شهداء الله في الأرض بنص السنة الصحيحة .

                [ ص: 84 ] الثاني : أن التابعين كانوا إذا أشكل عليهم مسألة ، فوجدوا فيها قول صحابي منتشرا لم ينكر ; لم يعدلوا عنه ، وذلك إجماع من التابعين على كونه حجة .

                واعلم أن ما ذكرناه من الدليل على أن ذلك إجماع ، تظهر قوته فيما إذا استدللنا به على أنه حجة ظنية ، لكن الشيخ أبا محمد ضعف القول بأنه حجة لا إجماع .

                قال " : لأنا إن قدرنا رضا الساكت ، فهو إجماع ، وإلا فهو قول بعض أهل العصر ، وليس بحجة .

                وأما الفرق بين قول المفتي والحاكم ، بالمهابة وعدمها ، وما ذكر قبل ، فإنما يتجه بعد استقرار المذاهب ، أما قبل ذلك ، فالحاكم كالمفتين في ذلك .

                تنبيه : القاعدة بمقتضى العقل واللغة أن لا ينسب إلى ساكت قول ، إلا بدليل يدل على أن سكوته كالقول ، حكما أو حقيقة ، لأن السكوت عدم محض ، والأحكام لا تترتب على العدم ، ولا يستفاد منه الأقوال .

                فلهذا لو أتلف إنسان مال غيره ، وهو ساكت لم يمنعه ، ولم ينكر عليه ضمن المتلف ، ولا يجعل سكوت المالك إذنا فيه .

                ولو ادعي على شخص دعوى ، فلم يجب بنفي ولا إثبات ، لم يجعل [ ص: 85 ] مقرا بالحق بسكوته ، بل يقول له الحاكم : إن أجبت ، وإلا جعلتك ناكلا ، وقضيت عليك ، فإذا لم يجب ، قضى لوجود شرط القضاء ، وهو عدم إجابته ، تنزيلا له منزلة الإقرار ، لظهوره فيه ، لا أنه إقرار حقيقة . وهذا من المواضع المستثناة التي ينسب فيها إلى الساكت قول بدليل ، ولو قيل له : أطلقت امرأتك ؟ أو أعتقت رقيقك ؟ أو زوجت ابنتك فلانا ؟ أو بعته ؟ أو رهنته ؟ أو وهبته هذه العين ؟ أو لفلان عندك كذا ؟ فسكت ، لم يكن إقرارا .

                أما إن قام دليل شرعي أو عقلي على نسبة القول أو مقتضاه إلى الساكت ، عمل به ، كقوله - عليه السلام - في البكر : إذنها صماتها ، وكذلك ضحكها وبكاؤها يعني في تزويجها ، وكقولنا : إن إقرار النبي - عليه السلام - على قول أو فعل ، مع علمه به ، وقدرته على إنكاره حجة ، وإن الإجماع السكوتي حجة ، وكقولنا : إن من أقر بأحد ولدين ولدتهما امرأته في بطن واحد ، وسكت عن توأمه ، لحقه نسبه ، ولم يكن له نفيه ، لاستلزام إقراره بتوأمه الإقرار به عقلا ، إذ لا يتصور كون أحدهما منه والآخر من غيره ، وكذلك لو هنئ بولده ، فسكت ، أو أمن على الدعاء له ، أو أخر نفيه مع إمكانه ، والعلم بأن له نفيه ; لحقه نسبه ، لقيام الدليل على أن السكوت هاهنا كالقول ، ولو حلق [ ص: 86 ] حلال رأس محرم ، وقدر على الامتناع ، فلم يمتنع ، ولم يكن منه إذن ، فهل الفدية عليه أو على الحالق ؟ فيه وجهان ، لأن سكوته هاهنا قوي ، لاقترانه بالقدرة على المنع ، فصار مترددا بين الإذن المحض ، والسكوت المحض ، وسكوت أحد المتناظرين عن الجواب لا يعد انقطاعا في التحقيق ، إلا بإقرار منه ، أو قرينة حال ظاهرة ، مثل أن يعرف بحب المناظرة ، وقهر الخصوم ، وتوفر الدواعي على ذلك ، فهذا سكوته في مجرى العادة لا يكون إلا عن انقطاع .

                أما لو انتفت القرينة ، لم يدل سكوته على الانقطاع ، لتردده بين استحضار الدليل ، وترفعه عن الخصم لظهور بلادته ، أو تعظيمه ، وإجلاله عن انقطاعه معه ، أو إفضاء المناظرة إلى الرياء ، وسوء القصد ، فيحب السلامة بالسكوت ، ونحو ذلك من الاحتمالات ، ولذلك اشتهر بين العامة ، إذا قرروا شخصا بأمر ، فسكت ، قالوا : سكوته إقراره ، وليس ذلك مطلقا ، بل إن ظهرت قرائن الإقرار ، دل سكوته عليه ، وإلا فلا .

                ومن هذا الباب وقع النزاع بين العلماء في بيع المعاطاة ، نحو : خذ ، وأعطني ، أو يتعاطيان بلا قول أصلا من إيجاب وقبول ، فالمشهور عن الشافعي : لا يصح ، لأن مال الغير حرام إلا بالتراضي وهو خفي في النفس ، [ ص: 87 ] يحتاج إلى قول يدل عليه ، لأن الساكت لا ينسب إليه قول ، والصحيح الأكثر عن العلماء صحته ، لدلالة السكوت مع قرائن الأحوال على الرضا قطعا ، ولاصطلاح الناس عليه في كل عصر من غير نكير ، فكان إجماعيا مما نحن فيه ، ويتخرج على هذه القاعدة كل ما أشبه هذه المسائل .

                والسر فيه ، أن العبارات ليست مقصودة لذاتها ، بل لدلالتها على ما في النفوس من الإرادات والمعاني ، فإذا حصلت الدلالة على ذلك بدون الألفاظ ، صارت فضلة لا حاجة إليها ، كما لا يحتاج الطائر في صعوده السطح إلى نصب سلم ، لاستغنائه عنه بالجناح ، ولهذا وقع الحذف كثيرا في كلام العرب ، لحصول مقصود اللفظ المحذوف بالقرائن ، والله تعالى أعلم .




                الخدمات العلمية