الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 53 ] الثالثة : الجمهور : أنه لا ينعقد بقول الأكثر خلافا لابن جرير ، وعن أحمد مثله لارتكاب الأقل الشذوذ المنهي عنه .

                لنا : العصمة للأمة ولا تصدق بدونه ، وقد خالف ابن مسعود وابن عباس في مسائل فجوز لهم .

                قالوا : أنكر عليه المتعة ; وحصر الربا في النسيئة ، والعينة على زيد بن أرقم .

                قلنا : لخلاف مشهور السنة ، ثم قد أنكر على المنكر ، فلا إجماع ، فهو مختلف فيه ، حكمه إلى الله بدليل : وما اختلفتم ، فإن تنازعتم .

                التالي السابق


                المسألة " الثالثة : الجمهور : أنه لا ينعقد " يعني الإجماع " بقول الأكثر " دون الأقل ، حتى يتفق الجميع ، " خلافا لابن جرير " الطبري ، وأبي بكر الرازي ، وأبي الحسين الخياط من المعتزلة ، فإنهم ذهبوا إلى انعقاده مع مخالفة الأقل " وعن أحمد مثله " أي : مثل قولهم . قال في " الروضة " : أومأ إليه أحمد .

                قلت : وحكاه الآمدي رواية عنه في جملة هؤلاء المذكورين ، وحكي مع ذلك في المسألة أقوال أخر :

                أحدها : إن بلغ الأقل عدد التواتر ، لم ينعقد الإجماع بدونه ; وإلا انعقد . وهذا قول بعض المالكية ، وبعض المعتزلة ، وأبي الحسين الخياط ، فيما حكاه القرافي .

                [ ص: 54 ] قلت : هذا يتخرج على رأي من زعم أن مستند الإجماع العقل لا السمع ، وأن الإجماع يشترط له عدد التواتر ، إذ التواتر يفيد العلم ، فيجوز أن الحق مع الأقل المخالف ، فلا ينعقد الإجماع دونه ، لأنه ليس بقاطع إذن .

                قلت : وهو بادئ الرأي تفصيل حسن مقبول ، لكنه مع النظر ضعيف من جهة أن عدد التواتر غير محدود ، فكيف يعلق هذا الحكم به ، ولو كان محدودا ، لكن إذا كان الأقل بالغا عدد التواتر ، فالأكثر أولى ، فيلزم من ذلك تعارض الخبرين المتواترين ، وهو أبعد في الاستحالة من تعارض الإجماعين ، وما نشأ هذا الضعف إلا من اعتبار التواتر في الإجماع ، ولا معنى لاعتباره ، لأن تأثير التواتر إنما هو في الخبريات ، لا في النظريات الاجتهاديات ; فإن اليهود والنصارى لو أخبرونا بأمر شاهدوه ، كمدينة من المدن ، أو وقوع زلزلة في مكان ما ، أو نحو ذلك ، صدقناهم ، وأفاد خبرهم العلم ، إذا بلغوا عدد التواتر ، لأن ذلك أمر خبري ، ولو أخبرونا عن أن محمدا غير نبي ، أو عن بطلان شيء من قواعد الإسلام ، أو عن قدم العالم ونحوه ، لم نصدقهم ، لأن ذلك أمر نظري ، صدر عن نظر فاسد .

                القول الثاني : إن سوغت الجماعة الاجتهاد في مذهب المخالف ، كان خلافه معتدا به ، وإلا فلا ، وهو قول أبي عبد الله الجرجاني .

                قلت : وهو قول بانعقاد الإجماع بالأكثر ، لأنه اعتبر تسويغهم قول المخالف وعدمه ، فلو لم يكن اتفاقهم حجة ، لما كان تسويغهم المذكور حجة .

                القول الثالث : إن إتباع الأكثر أولى ، وخلافه جائز .

                [ ص: 55 ] القول الرابع : إن قول الأكثر حجة لا إجماع .

                وقال القرافي : يعتبر عند مالك مخالفة الواحد في إبطال الإجماع .

                وقال القاضي عبد الوهاب : إذا خالف الواحد والاثنان ، من قصر عن عدد التواتر ، فلا إجماع حينئذ .

                وقال قوم : لا يضر الواحد والاثنان .

                وقال ابن الإخشاذ : لا يضر الواحد والاثنان في أصول الدين ، والتأثيم والتضليل ، بخلاف مسائل الفروع .

                وهذا ما اتفق من نقل الخلاف في المسألة ، فلنرجع الآن إن شاء الله تعالى إلى ذكر دليلها على ما في " المختصر " .

                قوله : " لارتكاب [ الأقل ] الشذوذ المنهي عنه " . هذه حجة ابن جرير وأتباعه على انعقاد الإجماع بدون الأقل المخالف ، وذلك لأن مخالفة الأقل شذوذ عن الجماعة ، والشذوذ عن الجماعة منهي عنه بقوله - عليه السلام - :

                من فارق الجماعة ، فمات ، فميتته جاهلية ، ونحوه من الأحاديث السابقة في كون الإجماع حجة . وحينئذ يكون هذا المخالف الشاذ عاصيا فاسقا ، فلا يعتبر خلافه ، وينعقد الإجماع بدونه .

                قوله : " لنا : العصمة للأمة " إلى آخره ، أي : لنا على أن الإجماع لا [ ص: 56 ] ينعقد بدون المخالف ، وإن كان شاذا ، وجهان :

                أحدهما : أن العصمة الإجماعية إنما ثبتت للأمة ، والأمة لا تصدق على الأكثرين بدون هذا المخالف ، فلا يكون اتفاقهم بدونه إجماعا .

                الوجه الثاني : أن ابن مسعود ، وابن عباس - رضي الله عنهم - خالفا جمهور الصحابة في مسائل ، فانفرد كل واحد منهم عنهم بخمس مسائل في الفرائض ، وانفردا وغيرهما في بقية الأحكام بمسائل أخر . وجوز الصحابة لهم هذا الانفراد ، ولو انعقد إجماع الصحابة بدونهما ، لاستحال في العادة ترك النكير عليهما ، وإقرارهما على مخالفة الإجماع ، فدل ذلك على أن الإجماع بدونهما لم ينعقد ، وهو المطلوب .

                قوله : " قالوا : أنكر عليه " إلى آخره . هذا معارضة لهذا الدليل من وجه ، دليل ابتدائي للخصم من وجه .

                وتقريره : أنهم إن كانوا لم ينكروا على ابن عباس وابن مسعود ما خالفا فيه في الفرائض ، فقد أنكروا على ابن عباس إباحة " المتعة " حتى رجع عنها " وحصر الربا في النسيئة " حتى تركه ، وأنكرت عائشة - رضي الله عنها - على زيد بن أرقم بيع العينة ; وهي شراء ما بيع نسيئة بأقل مما بيع به وأغلظت عليه في ذلك حتى قالت لأم ولده : أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول

                [ ص: 57 ] الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب ، ولولا أن اتفاق الأكثر حجة ، لما كان لهم الإنكار عليهم .

                قوله " قلنا : لخلاف مشهور السنة " . هذا جواب على دليلهم المذكور ، وهو من وجهين :

                أحدهما : أن إنكار الصحابة - رضي الله عنهم - على هؤلاء انفرادهم بهذه المسائل ، إنما كان لمخالفتهم فيها السنة المشهورة ، والدليل الظاهر ، لا لكون اتفاقهم مع مخالفة هؤلاء إجماعا .

                الوجه الثاني : أنه قد " أنكر على المنكر " أي : كما أنكر الصحابة على هؤلاء المذكورين ما انفردوا به ; كذلك هؤلاء المذكورون أنكروا على الصحابة إنكارهم عليهم ، وناظروهم في ذلك ، حتى قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في العول : من شاء باهلته ، إن الذي أحصى رمل عالج عددا ، لم يجعل في مال نصفين وثلثا ، هذان نصفان ذهبا بالمال ، فأين موضع الثلث ؟ وإذا حصل الإنكار من الطرفين " فلا إجماع " بل هو " مختلف فيه ، حكمه إلى الله - عز وجل - بدليل " قوله - عز وجل - : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [ الشورى : 10 ] ، وقوله - عز وجل - : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله [ النساء : 59 ] .




                الخدمات العلمية