الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 372 ] الخامس : تعقيب الكلام أو تضمينه ما لو لم يعلل به ، لم ينتظم نحو : فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ، لا يقضي القاضي وهو غضبان إذ البيع والقضاء لا يمنعان مطلقا ، فلا بد إذن من مانع; وليس إلا ما فهم من سياق النص ومضمونه .

                السادس : اقتران الحكم بوصف مناسب ، نحو : أكرم العلماء ، وأهن الجهال كما سبق; ثم الوصف في هذه المواضع معتبر في الحكم ، والأصل كونه علة بنفسه إلا لدليل يدل على أن العلة مضمونة كالدهشة التي تضمنها الغضب .

                التالي السابق


                " الخامس " : أي : النوع الخامس من أنواع الإيماء " تعقيب الكلام أو تضمينه " أي : أن يذكر عقيب الكلام ، أو في سياقه ، أو في ضمنه شيئا " لو لم يعلل به " الحكم المذكور ، " لم ينتظم " أي : لم يكن الكلام منتظما ، " نحو " قوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] ، وقوله - عليه السلام - : لا يقضي القاضي وهو غضبان ، فلو لم يعلل النهي عن البيع حينئذ بكونه مانعا أو شاغلا عن السعي ، لكان ذكره لاغيا ، وكذا لو لم يعلل النهي عن القضاء عند الغضب بكونه يتضمن اضطراب المزاج الموجب لاضطراب الفكرة الموجب غالبا للخطأ في الحكم ، لكان ذكره لاغيا ، وذلك لأن البيع والقضاء لا منع منهما [ ص: 373 ] مطلقا ، " فلا بد إذن من مانع ، وليس إلا ما فهم من سياق النص ومضمونه : من شغل البيع عن السعي إلى الجمعة فتفوت ، واضطراب الفكرة لأجل الغضب ، فيقع الخطأ ، فوجب إضافة النهي إليه ؛ لأنه مناسب ، فهو من باب اقتران الحكم بالوصف المناسب .

                " السادس " : أي : النوع السادس من أنواع الإيماء " اقتران الحكم بوصف مناسب ، نحو " قوله : " أكرم العلماء ، وأهن الجهال ، كما سبق " كقوله - عز وجل - : الزانية والزاني فاجلدوا [ النور : 2 ] ، والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ المائدة : 38 ] ، أي : للزنى والسرقة ، وقوله - عليه السلام - : لا يقتل مسلم بكافر ; يفهم منه تعليل عدم القصاص بينهما بشرف الإسلام ونقص الكفر ، لأن المعلوم من تصرفات العقلاء ترتيب الأحكام على الأمور المناسبة ، والشرع لا يخرج عن تصرفات العقلاء . " ثم " إن " الوصف في هذه المواضع " أي : في كل موضع رتب الحكم عليه " معتبر في الحكم " أي : في تعريفه له أو في تأثيره ووجوده ، غير أنه يحتمل أنه - أعني الوصف - علة بنفسه ، كالإحياء المقتضي لملك الموات ، ويحتمل أن العلة ما تضمنه واشتمل عليه " كالدهشة " المانعة من الفكر " التي تضمنها " وصف " الغضب " لكن الأصل كون الوصف " علة بنفسه " حتى يقوم الدليل على أن العلة ما تضمنه ، كالدهشة ، أو لزم عنه ، كالتفاضل اللازم عن نقص الرطب ، أو اشتمل عليه ، كالشغل عن الجمعة الذي اشتمل عليه البيع .

                قال بعض الأصوليين : نذكر من أنواع الإيماء الفرق بين شيئين في [ ص: 374 ] الحكم بذكر صفة ، فإنه يفيد أن تلك الصفة علة الفرق ، كقوله - عليه السلام - : القاتل لا يرث مع إثباته الإرث لغيره من الأولاد ، فيدل على أن القتل علة منع الإرث ، وكقوله - عليه السلام - : للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم ، وقوله : البكر إذنها صماتها والثيب تعرب عن نفسها . وهذا كله من باب دليل الخطاب وهو أيضا نوع إيماء ، فالبابان مشتركان .

                فائدة : أنواع الإيماء المذكورة تنقسم باعتبار الوفاق والخلاف فيها ثلاثة أقسام ، لأنه إما أن يصرح فيه بالحكم والوصف جميعا أو لا ، فإن صرح فيه بهما ، فهو إيماء متفق عليه لا خلاف فيه ، وإن لم يصرح بهما; فإن صرح بالحكم ، والوصف مستنبط; فليس بإيماء باتفاق ، وإن صرح بالوصف ، والحكم مستنبط ، فهذا هل يكون إيماء ؟ فيه خلاف .

                مثال المتفق على كونه إيماء قوله - عليه الصلاة والسلام - : من أحيا أرضا ميتة فهي له ، من ملك ذا رحم محرم عتق عليه ، فقد صرح في [ ص: 375 ] الأول بالإحياء وهو الوصف ، وبالحكم وهو الملك ، وفي الثاني صرح بالملك وهو الوصف ، وبالعتق وهو الحكم .

                ومثال المتفق على أنه ليس بإيماء ما ذكر في تخريج المناط ، وهو ما إذا حرم الربا في البر ، فاستخرجنا منه علة الكيل أو الطعم أو الوزن . ولو نص على تحريم الخمر ، فاستخرجنا منه وصف الإسكار ، فالحكم مصرح به ، والوصف مستنبط .

                ومثال المختلف فيه قوله - عز وجل - : وأحل الله البيع [ البقرة : 275 ] ، فمن زعم أنه ليس إيماء إلى الصحة ، قال : لأنها غير مصرح بها فيه ، فهو كما لو صرح بالحكم ، واستخرجنا العلة قياسا لأحدهما على عكسه ، ومن زعم أنه إيماء ، قال : إنه - سبحانه وتعالى - دل بإحلال البيع على الصحة ، إذ لولا الصحة ، لم يكن للإحلال فائدة ، كما أنه لولا إفساد الربا ، لم يكن لتحريمه فائدة ، والله تعالى أعلم .




                الخدمات العلمية