الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 659 ] فالأشبه إذا ، أن لا إثم على من أخطأ في حكم اعتقادي غير ضروري مجتهد ، أو عامي مع الجد والاجتهاد بحسب الإمكان مع ترك العناد .

                وفيه احتراز مما يلزم الجاحظ ، إذ أكثر مخالفي الملة عاندوا ، ومنهم من لم يستفرغ وسعه في الاجتهاد .

                وأن الكفر إنكار ما علم كونه من الدين بالضرورة ، وهو مقتضى كلام الشيخ أبي محمد في رسالته ، إذ لم يكفر أحدا من المبتدعة غير المعاندين ومنكري الضروريات ، لقصدهم الحق مع استبهام طريقه .

                التالي السابق


                وقوله : " فالأشبه إذا " ، أي : قد تقرر أن العامي لا يستقل بمعرفة الأدلة العقلية ودفع الشبه عنها ، فالأشبه بالصواب " أن " يقال : " لا إثم على من أخطأ في حكم اعتقادي غير ضروري مجتهد أو عامي مع الجد والاجتهاد بحسب الإمكان مع ترك العناد " .

                فقولنا : " اعتقادي " هو المراد بالأحكام الأصولية لأن حظ المكلف منها الاعتقاد .

                وقولنا : " غير ضروري " احتراز مما سبق من ضروريات الشريعة التي اشترك فيها العامة وغيرهم .

                وقولنا : " مجتهد ، أو عامي " ليس احترازا عن شيء ، بل هو بدل تفصيلي من قولنا : " على من أخطأ " ، أي : لا إثم على المخطئ والحالة هذه ، سواء كان مجتهدا أو عاميا .

                [ ص: 660 ] وقولنا : " مع الجد والاجتهاد " احتراز ممن لا يجتهد في معتقده أصلا ، بل يعتقد ما خطر له أو ما مال إليه هواه ، فإن ذلك يأثم ، لأنه ترك الواجب ، أو تابع الهوى في اجتهاده .

                وقولنا : " بحسب الإمكان " ، أي : يكتفي منه بما أمكنه ، وما بلغته قوته من الاجتهاد ، ولا يكلف منه ما لا سبيل له إليه ، إذ ذلك ما لا يطاق .

                وقولنا : " مع ترك العناد " ، احتراز من أن يجتهد ويعاند في اجتهاده بأن يظهر له الصواب ، فيحيد عنه ، كما حكى الله - عز وجل - عن قوم فرعون : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [ النمل : 14 ] .

                قوله : " وفيه " ، أي : في هذا الضابط المذكور لعدم الإثم " احتراز مما يلزم الجاحظ " على قوله : لا إثم على من أخطأ الحق مع الجد في طلبه من رفع الإثم عن كل كافر ، لأنهم جدوا في طلب الحق ، فلم يصيبوه ، فلا يلزم هذا على ما ذكرناه من الضابط ، لأن أكثر المخالفين لملة الإسلام عاندوا الحق مع وضوحه بدليل قوله - عز وجل - : فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [ الأنعام : 33 ] ، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق [ الأنعام : 114 ] ، وأشباه ذلك ، مما دل على كفرهم وعنادهم . " ومنهم " - أي : ومن مخالفي الملة - " من لم يستفرغ وسعه في الاجتهاد " ، فكان خطؤه لتقصيره ، فلحقهم الإثم لذلك ، ونحن قدرنا الضابط المذكور ، لنفي الإثم بأن يوجد الجد في طلب الحق والاجتهاد ، وأن تنتفي المكابرة والمعاندة ، فلا يلزمنا ما لزم الجاحظ مما سبق .

                قوله : " وأن الكفر " . هذا عطف على قوله : فالأشبه أن لا إثم على من [ ص: 661 ] ذكر ، والأشبه أن الكفر " إنكار ما علم كونه من الدين ضرورة " ، فلا يكفر أحد بإنكار ما سوى ذلك من مسائل الفروع وما بينها وبين الأصول الضرورية ، كمسألة القدر ، والحرف ، والصوت ، ونحوها على ما قررته في كتاب " إبطال التحسين والتقبيح " .

                قلت : وهذا كالتقرير للضابط المذكور في نفي الإثم عمن أخطأ الحق ، وذلك لأن الكفر إذا انحصر في إنكار الضروريات ، فالضروريات لا يخطئ فيها أحد عامي ولا غيره ، فيبقى ما عدا الضروريات " هو مقتضى كلام الشيخ أبي محمد " مصنف " الروضة " " في رسالته " ، وهي رسالة رد فيها على بعض الحرانيين قوله بتكفير كل مبتدع في مسائل العقائد ، كالأشعرية والمعتزلة والجهمية ونحوهم ، فرد عليه الشيخ أبو محمد و " لم يكفر أحدا " من أهل القبلة غير المعاندين ومنكري الضروريات لقصدهم الحق مع استبهام طريقه .

                قلت : فهم بقصد الحق مثابون أو غير آثمين ، وباستبهام طريقه معذورون .

                وهذا يشير إلى قاعدة قررتها في ذلك في " القواعد الصغرى والكبرى " وكتاب " إبطال التحسين والتقبيح " .

                أما منكرو الضرورات ، فيلزمهم العناد ، لأن من يعش خمسين سنة بين المسلمين ، ثم يقول : الصلاة غير واجبة ، والزنا غير محرم ، فهذا لا يرتاب في أنه معاند ، وكذلك من اعتقد في الله - عز وجل - ما يعلم أنه لا يليق به ، كمن اعتقد أنه جسم ; وهو يعلم أن الجسمية لا تليق به ، ونحو ذلك ، لأنه مستهزئ بالحرمة الإلهية ، متلاعب بها ، فهذان يكفران ، ومن سواهم ، فلا ، والله تعالى أعلم بالصواب .

                [ ص: 662 ] فائدة : قال الآمدي : ذهب عبيد الله بن الحسن العنبري والحشوية والتعليمية إلى جواز التقليد في المسائل الأصولية المتعلقة بالاعتقاد في الله - عز وجل - ، وربما قال بعضهم بوجوبه على المكلف ، وتحريم النظر في ذلك ، وذهب الباقون إلى المنع من ذلك ، وهو المختار .

                وقال القرافي : قال إمام الحرمين في المسائل : لم يقل بالتقليد في الأصول إلا الحنابلة .

                قلت : قد رأيت أيها الناظر ما ذكرناه من مذهبنا في ذلك ، ولا نعلم فيه خلافا ، كيف وقد نص أحمد على النهي عن التقليد نهيا عاما ، فقال : من ضيق علم الرجل أن يقلد دينه غيره ، فبان أن ما قاله إمام الحرمين إما التباس عليه ، أو تلبيس منه ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .




                الخدمات العلمية