الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 118 ] العاشرة : لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند قياس أو غيره ، وقيل : لا يتصور عن قياس ، وقيل : يتصور ، وليس بحجة .

                لنا : لا يمتنع مع مدارك الظن كإلحاق النبيذ بالخمر في التحريم .

                قالوا : القياس مختلف فيه ولا إجماع مع الخلاف .

                قلنا : نفرضه قبل الخلاف فيه ، أو يستند المخالف فيه إلى مدرك لا يعتقده قياسا ، أو يظن القياس غير قياس كالعكس .

                قالوا : ظني ، فلا يثبت أصلا أقوى منه .

                قلنا : باطل بالعموم وخبر الواحد ، وإذا تصور كان حجة بأدلة الإجماع .

                التالي السابق


                المسألة " العاشرة : لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند قياس أو غيره " إلى آخره ، أي : لا بد للإجماع من دليل يستند إليه ، وأجازه قوم بمجرد الاتفاق والتبحيث ، أي : لا يستندون فيه إلى حجة ، بل متى اتفقت الأمة على قول ، لزم أن يوافق ذلك الصواب ، لما ثبت لها من العصمة .

                حجة الجمهور : أن القول بغير حجة اتباع للهوى ، واتباع الهوى باطل ، فالقول بغير حجة وإن كان من جميع الأمة باطل .

                أما أن القول بغير حجة اتباع للهوى ; فلأن بدون الحجة يستوي الإثبات والنفي ، فالقول بأحدهما بلا دليل ترجيح من غير مرجح ، وما ذلك إلا بالهوى والتشهي .

                [ ص: 119 ] وأما أن اتباع الهوى باطل ; فظاهر متفق عليه ، فثبت بذلك أن القول بغير حجة باطل .

                حجة المجوزين : أن الأمة معصومة من الخطأ في الدين ، والمعصوم لا يصدر عنه إلا الصواب ، لأجل أنه معصوم لا لاستناد إلى حجة وشبهة ، والمقدمتان ظاهرتان ، وقد سبق تقريرهما .

                وأجابوا عن قول الأولين : إن القول بغير حجة اتباع للهوى ، بأن قالوا : اتباع الهوى من آحاد الأمة أو من جميعها ؟ الأول مسلم ، والثاني ممنوع .

                قولهم " لأنه بدون الحجة يستوي النفي والإثبات .

                قلنا : نعم .

                قولهم : فالقول بأحدهما بلا دليل ترجيح من غير مرجح .

                قلنا : لا نسلم ، بل المرجح هاهنا العصمة الإلهية ، الثابتة لهذه الأمة بقوله - عليه السلام - : لا تجتمع أمتي على ضلالة ، وسائر أدلة الإجماع . وحينئذ متى اتفقوا على شيء ، كان حقا وصوابا ، لأن الله - سبحانه وتعالى - لا يلهمهم سواه ، ولا يجري على ألسنتهم إلا إياه .

                قلت : هذا المذهب سهل متجه ، أما سهولته ، فظاهرة من جهة استراحة المجتهدين من النظر ، والنزاع فيه قبل الاتفاق ، وأما اتجاهه ، فبما ذكر ، ويذكر إن شاء الله تعالى .

                ومما يقرب منه ، ويجعل نظيرا له ، صلاة الاستخارة ، فإن في [ ص: 120 ] الحديث : ما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار وفيه : من سعادة ابن آدم استخارة الله - عز وجل - ، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله - عز وجل - روى معناه الترمذي ، ثم قد رأينا بعض الناس عوده الله منه عادة جميلة ; وهو أنه متى استخاره في أمر ، وفوض إليه فيه ، لا يختار له إلا الأصلح فيه ، ولا يوفقه وييسره إلا له . بمقتضى دعاء الاستخارة المشهور ، وتظهر المصلحة لذلك الشخص فيما يختار له عاجلا أو آجلا ، وإنما ذلك وفاء بقوله - عز وجل - : ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره [ الطلاق : 3 ] ، فكذا الأمة لا يوفقها ، ويجري على أذهانها وألسنتها فيما تتفق عليه إلا الصواب وفاء بعصمته لها .

                واعلم أن الطائفتين في المسألة اعتبروا الدليل في الإجماع ، لكن الأولون اعتبروا الدليل الخاص بكل فرد من أفراد الإجماع في آحاد المسائل ، والآخرون اكتفوا بالدليل العام على كون الإجماع حجة .

                ويشبه أن يتفرع اختلافهم على أصل ، فإن لم يتفرع عليه ، فهو مشبه له ، وهو أن الأصوليين اختلفوا في التفويض إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بأن يقال له : احكم برأيك ، فإنك لا تحكم إلا بحق ; هل يصح أم لا ؟ فصححه بعضهم [ ص: 121 ] بناء على عصمته ، فكذا هاهنا تحكم الأمة برأيها بدليل وغير دليل ، ولا تحكم إلا بحق بناء على عصمتها ، وإن لم يجز ذلك في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لم يجز في الأمة ، لأنهم فرع عليه ، وعصمتهم فرع على عصمته والله تعالى أعلم .

                ثم اختلف الجمهور وهم القائلون : لا إجماع إلا عن مستند في مستند الإجماع .

                فقال بعضهم : يجوز أن يكون مستنده قياسا وغيره من دليل ، أو أمارة ، أو حجة ، أو شبهة .

                وقال بعضهم : " لا يتصور " الإجماع " عن قياس " .

                وقال آخرون : " يتصور " عن القياس ، لكن لا يكون حجة .

                وقال آخرون : يصح عن القياس الجلي دون الخفي .

                قوله : " لنا : " أي : على انعقاده عن قياس وغيره : هو أنه لا يمتنع اتفاقهم على حصول ظن الحكم بالقياس ، فإن القياس محصل للظن ، وإذا حصل الظن ، جاز الاتفاق على موجبه حسا وشرعا .

                أما حسا ، فكما أن أهل الأرض إذا شاهدوا الغيم الرطب ، اشتركوا في ظن وقوع المطر .

                وأما شرعا ، فكما إذا علم الناس أن النبيذ مسكر كالخمر ، غلب على ظنهم أنه حرام كالخمر ، بجامع الإسكار ، والاتفاق على موجب هذا الظن غير ممتنع .

                قوله : " قالوا : " يعني المانعين بانعقاده عن القياس احتجوا بأن " القياس [ ص: 122 ] مختلف فيه ، ولا إجماع مع الخلاف " أي : الإجماع فرع مستنده ، وإذا كان المستند مختلفا فيه ، فكيف يكون المستند إليه متفقا عليه ؟ وكيف يختلف في الأصل ، ويتفق على الفرع ، والفروع تابعة لأصولها ؟

                قوله : " قلنا : " أي : الجواب عن ذلك أنا إذا فرضنا الكلام قبل وقوع الخلاف في القياس ، وذلك في زمن الصحابة ، فإنهم كانوا متفقين عليه ، لم يرد ما ذكرتم ، بل يكون الإجماع مستندا إلى دليل لا خلاف فيه ، وهو القياس .

                وإن فرضناه بعد حدوث الخلاف في القياس ، قلنا : يستند أهل القياس إليه ، و " يستند المخالف فيه إلى مدرك " من مدارك الاجتهاد " لا يعتقده قياسا " وهو في الحقيقة قياس ، وذلك متصور واقع ، فإن كثيرا من منكري القياس استندوا إليه في مواضع ، وسموه بغير اسمه ، كالتنبيه ، وتنقيح المناط ، فبعضهم يقول : لا يقضي القاضي وهو جائع ، وهو في الحقيقة قياس على الغضب بالجامع المعروف ، ويقولون : نبه بحالة الغضب على حالة الجوع وغيرها من الأحوال ، والحنفية مع قولهم : لا قياس في الكفارات ، أوجبوا الكفارة على الصائم بالأكل والشرب ، وهو في الحقيقة قياس على الوطء ، بجامع الإفساد ، وقالوا : هذا تنقيح المناط اعتبارا من حديث الأعرابي ، لعموم الإفساد ، لا لخصوص الجماع ، فهكذا يجوز أن يستند المخالف في القياس عند الإجماع على ما لا يعتقده قياسا ، وهو قياس ، فيتحد المستند ، ويتفرع عليه الإجماع ، أو نفرض أن المخالف " يظن القياس غير قياس [ ص: 123 ] كالعكس " أي : كما يجوز أن يظن غير القياس قياسا كالتنقيح ، والتنبيه ، ومفهوم الموافقة ، كذلك يجوز أن يظن القياس غير قياس ، فيستند إليه في الإجماع .

                واعلم أنه هكذا وقع في " المختصر " : " أو يظن القياس غير قياس " بأو ، وهو يفيد أن ظن القياس غير قياس مغاير للاستناد إلى مدرك لا يعتقده قياسا ، وهو قياس في الحقيقة ، وليسا متغايرين ، بل هما واحد ، فإن أريد تصحيحه على ما في " الروضة " قيل : بالواو ، هكذا : " إلى مدرك لا يعتقده قياسا ، ويظن القياس غير قياس كالعكس " لكن الظاهر أني وقت الاختصار قصدت الزيادة على ما في " الروضة " بأن المخالف في القياس يجوز أن يستند إلى القياس ، ولا يظنه قياسا ، أو يستند إلى مدرك لا يعتقده قياسا ، ولا هو في الحقيقة قياس ، ولا يضر اختلاف مدرك الإجماع في نوعه ، والشيخ أبو محمد كأنه حافظ على اتحاد نوع المستند ، فلم يفرض إلا أن المخالف استند إلى قياس ، واعتقده غير قياس كالعكس ، والله سبحانه أعلم .

                قوله : " قالوا : ظني " أي : احتج المانعون لانعقاد الإجماع عن القياس بوجه آخر ، وهو أن القياس " ظني " والإجماع قاطع ، فلا يثبت بالقياس ، لأن الضعيف لا يثبت أقوى منه .

                قوله : " قلنا : " أي : في الجواب : إن هذا " باطل بالعموم وخبر الواحد " وهما ظنيان ، ويثبت بهما الإجماع ، ثم يقال : ما المراد بقولكم : القياس ظني ؟ إن عنيتم أنه لا يفيد إلا الظن ، فالإجماع كذلك ، لما سبق من أن المراد [ ص: 124 ] بالقطع فيه ليس المانع من النقيض عقلا ، وإن عنيتم أن مستند القياس ظني ، وهو النظر في أركانه : الأصل ، والفرع ، والعلة ، والحكم ، فمستند الإجماع كذلك ، وهو ظواهر الكتاب ، وأخبار الآحاد كما سبق ، وإن عنيتم أن الإجماع لا يجوز بخلاف القياس ، فالجواب من وجهين :

                أحدهما : أن الفرق ممنوع في القياس الجلي ، فإنه يفيد القطع ، فلا يجوز خلافه .

                الثاني : أن عدم جواز الخلاف إنما حصل في الإجماع من قبل ثبوت العصمة للأمة ، لا من جهة كونه دليلا ، وذلك أمر خارج عما نحن فيه .

                قوله : " وإذا تصور ، كان حجة بأدلة الإجماع " . هذا جواب القائلين : إن الإجماع يتصور عن القياس ولا يكون حجة .

                وتقريره : أنه إذا تصور الاتفاق عن القياس ، كان حجة بأدلة الإجماع السابقة ، لأنه سبيل المؤمنين ، فيحرم خلافه ، وبقوله - عليه السلام - : أمتي لا تجتمع على ضلالة ونحوه ، ووجه الفرق بين القياس الجلي والخفي في انعقاد الإجماع ظاهر ، وهو جيد مناسب ، والله أعلم .

                تنبيه : القائلون بجواز انعقاد الإجماع عن الرأي والاجتهاد اختلفوا في وقوعه ، فالمثبتون لوقوعه زعموا أن إمامة أبي بكر ، وقتال مانعي الزكاة ، وتحريم شحم الخنزير ، وحد شارب الخمر ثمانين ، وجزاء الصيد ، وأروش الجنايات ، ونفقة الأقارب ثبتت بالرأي والاجتهاد .

                [ ص: 125 ] والمانعون للوقوع احتجوا بما سبق ، من أن الإجماع دليل قاطع ، فلا يجوز استناده إلى الاجتهاد الظني ، وانتفاء الجواز يدل على انتفاء الوقوع دلالة انتفاء اللازم على انتفاء الملزوم ، وأما الصور المذكورة ، فهي مستفادة من النصوص ، فإمامة أبي بكر بقوله - عليه السلام - : اقتدوا باللذين من بعدي ، وقوله للمرأة : إن لم تجديني ، فائتي أبا بكر . قال ابن حزم : وشحم الخنزير حرم بقوله - عز وجل - : فإنه رجس [ الأنعام : 145 ] ، والضمير راجع إلى الخنزير في قوله تعالى : أو لحم خنزير [ المائدة : 3 ] ، وهو أقرب إلى الضمير .

                قلت : وهو استدلال ضعيف ، وأما حد شارب الخمر ثمانين ، فبما سبق من قول علي : وكل سنة ، وعلته ما ذكر هناك . وكذلك تكلفوا لبقية الصور ، والأشبه الأول ، وهو الوقوع .

                ثم القائلون بوقوعه عن اجتهاد ، اختلفوا في جواز مخالفته ، والأشبه عدم جوازها ، لأنه سبيل الأمة ، فأشبه المنعقد عن قاطع ، والله أعلم .




                الخدمات العلمية