الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 610 ] الجاحظ : الإثم بعد الاجتهاد قبيح ، لا سيما مع كثرة الآراء ، واعتوار الشبه وعدم القواطع الجوازم . ويلزمه رفع الإثم عن منكري الصانع والبعث والنبوات ، واليهود ، والنصارى ، وعبدة الأوثان الذين قالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إذ اجتهادهم أداهم إلى ذلك .

                وله منع أنهم استفرغوا الوسع في طلب الحق فأثمهم على ترك الجد ، لا على الخطأ ، وقوله على كل حال مخالف للإجماع ، إلا أن يمنع كونه حجة كالنظام ، أو قطعيته فلا يلزمه ، وقول الظاهرية باطل لبطلان مبناه .

                التالي السابق


                قوله : " الجاحظ " ، أي : احتج الجاحظ على التصويب مطلقا ، بأن ، تأثيم المجتهد بعد استفراغ وسعه في الاجتهاد قبيح ، إذ هو مفض إلى تكليف ما لا يطاق ، " لا سيما مع كثرة الآراء " والمذاهب ، والمقالات في العالم " واعتوار الشبه " ، أي : تواردها على القلوب ، و " عدم " الأدلة " القواطع ، الجوازم " على المطالب ، فإن التأثيم يزداد قبحا مع ذلك .

                قوله : " ويلزمه " هذا إلزام ألزم الناس الجاحظ به على مقالته ، وهو أن يلزمه " رفع الإثم " والوعيد " عن " كل كافر ؛ من " منكري الصانع ، والبعث والنبوات ، واليهود والنصارى ، وعبدة الأوثان الذين قالوا " : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [ الزمر : 3 ] ، لأن اجتهادهم هو الذي " أداهم إلى ذلك " .

                قوله : " وله منع أنهم استفرغوا " ، إلى آخره . هذا الاعتذار للجاحظ عن [ ص: 611 ] هذا الإلزام .

                وتقريره : أن للجاحظ أن يمنع أن هؤلاء الكفار " استفرغوا الوسع في طلب الحق " ، أي : لا نسلم أنهم بذلوا المجهود المعتبر لمثلهم في مثل مطلوبهم ، فكانوا مفرطين مقصرين ، فكان " إثمهم على ترك الجد " والاجتهاد الواجب عليهم ، لا على مجرد الخطأ ، بل منهم من عاند مع اتضاح الحق له ، كما أخبر الله - عز وجل - عن أهل الكتاب بقوله تعالى : وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم [ البقرة : 144 ] وقوله - عز وجل - : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون [ البقرة : 146 ] ، فالكفار إذن طائفتان : معاند ومقصر في الاجتهاد ، فعوقبوا لعنادهم وتقصيرهم ، ونحن إنما نعذر من اجتهد غاية وسعه فلم يدرك وخلا عن العناد ، فظهر الفرق .

                قلت : ومنذ خطر لي هذا الاعتذار عن الجاحظ ، كان يغلب على ظني قوته ، وإلى الآن والجمهور مصرون على الخلاف ، ولا يتمشى لهم حال إلا على القول بتكليف المحال لغيره ، وتساعدهم ظواهر النصوص ، نحو قوله - عز وجل - : ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ ص : 27 ] ، فتوعدهم بالنار على كفرهم ، ولم يعذرهم بالخطأ ، وعلى الآية اعتراضات لا تخفى .

                وبالجملة ؛ الجمهور على خلاف الجاحظ ، والعقل مائل إلى مذهبه ، " وقوله - على كل حال - مخالف للإجماع ، إلا أن يمنع كونه حجة " كما هو مذهب النظام ، أو يمنع كونه قاطعا مطلقا ، أو في مثل هذه المسألة من القطعيات ، " فلا يلزمه " حكم إجماعهم ، أو يقول : إن الإجماع لا ينعقد بدون [ ص: 612 ] الواحد من المجتهدين على المشهور في ذلك ، وهو وصاحبه العنبري اثنان من مشاهيرهم فلا ينعقد الإجماع بدونهما .

                قوله : " وقول الظاهرية باطل ، لبطلان مبناه " وقد سبق أن قولهم بتأثيم المخطئ في الفروع مبني على إنكار الاحتجاج بمدارك الظنون ، من الظاهر والعموم ، وخبر الواحد والقياس ، وذلك باطل بما سبق في مواضعه ، فيبطل ما بني عليه ، والله تعالى أعلم بالصواب .

                فوائد تتعلق بهذه المسألة :

                إحداهن : أن القول بأن كل مجتهد مصيب ؛ مبني على أن الوقائع الشرعية ، هل لله تعالى فيها حكم أم لا ؟ ولنذكر تفاصيل هذين القولين ، ثم نذكر فروعهما المذكورة إن شاء الله تعالى .

                أما القائلون بأن في الحوادث حكما معينا ، فمنهم من زعم أنه لا دليل عليه ، وهو قول جماعة من الفقهاء والمتكلمين ، ونقل عن الشافعي ، وهو عندهم كدفين يعثر عليه بالاتفاق ، ومنهم من زعم أن عليه دليلا .

                ثم اختلفوا : هل هو قطعي أو ظني ؟ قال الأصم وبشر المريسي في آخرين : هو قطعي .

                واتفقوا على أن المكلف مأمور بطلبه ، واختلفوا : هل يستحق العقاب إن أخطأه ؟ قال به بشر المريسي ، وخالفه غيره .

                وهل ينقض قضاء القاضي إذا خالفه ؟ قال به الأصم ، وخالفه الباقون .

                وقال آخرون : الدليل عليه ظني .

                وهل يكلف المجتهد بطلبه أم لا ؟ فيه قولان :

                أحدهما : نعم ، فإن أخطأه تعين الرجوع إلى ما غلب على ظنه .

                [ ص: 613 ] والثاني : لا يكلف بطلبه لخفائه ، وهو قول كافة الفقهاء ، منهم الشافعي ، وأبو حنيفة رضي الله عنهم .

                وأما القول بأنه لا حكم في الوقائع معين ، فهو قول من قال : كل مجتهد مصيب ، وهو قول جمهور المتكلمين ، منهم الأشعري ، والقاضي أبو بكر ، والجبائي وابنه .

                ثم على هذا هل يقال : إن في الواقعة لو كان لله - عز وجل - فيها حكم معين لكان هو ، وهو القول بالأشبه ، أم لا ؟ ، وهو قول بعضهم . هذا حاصل ما ذكره القرافي ، وبينه وبين ما قدمنا ذكره نوع تكرار وتداخل لا يضر ، لأن غرضي البيان في المسألة بتغاير العبارات .

                إذا ثبت هذا ؛ فمن زعم أن في المسألة حكما معينا قال : ليس كل مجتهد مصيبا ، لأن ذلك الحكم إن كان نفيا ، فقد أخطأه المثبت ، وإن كان إثباتا ، فقد أخطأه النافي .

                ومما قرر به بعضهم ذلك ؛ أن قال : القائل : ليس كل مجتهد مصيبا ، إما أن يكون مخطئا ، أو مصيبا ، فإن كان مخطئا ، فهو مجتهد قد أخطأ في هذا القول ، فليس كل مجتهد مصيبا ، وإن كان مصيبا ، فقد ثبت أن ليس كل مجتهد مصيبا ، فهو على التقديرين لازم .

                ومن زعم أنه ليس في المسألة حكم معين قال : الحكم ما أدى إليه ظن المجتهد . وحينئذ كل مجتهد مصيب ، لما غلب على ظنه ، ومصيب للخروج عن العهدة .

                واعلم أن النزاع بينهم يسببه أن يكون لفظيا من بعض الوجوه ، وذلك [ ص: 614 ] لأنهم وإن تنازعوا في أن ثم حكما معينا في نفس الأمر أم لا ، فهم لا يتنازعون أن المجتهد يخرج عن عهدة الاجتهاد بما غلب على ظنه ، وأدى إليه اجتهاده ، فالنزاع من هذا الوجه لفظي .

                الثانية : المختار : القول بالتصويب ، وإن كان بعض أخبار الآحاد يدل على خلافه ، كقوله - عليه السلام - : " لقد حكمت فيهم بحكم الملك " ونحوه ، لكن قد يمنع الاحتجاج بها في هذا الباب أو يتأول . وقد دل على التصويب أن المصلين إلى جهات عند اشتباه القبلة لا يعيدون عندنا ، وهي من فروع هذا الأصل ، وساعدها النص . وتحقيق القول بالتصويب ينبني على أصول :

                أحدها : أن الأدلة الظنية إضافية ، لا حقيقة قطعية ، أي : يكون الحديث مثلا أو غيره دليلا عند شخص دون غيره ، وإذا لم يكن الدليل حقيقيا في نفسه لم يكن له مطلوب متعين في نفسه .

                الثاني : ما سبق من أن علل الشرع أمارات إضافية لا حقيقية ، كالكيل علة منصوبة على تحريم التفاضل عند أحمد وأبي حنيفة ، والطعم عند الشافعي ، والكلام كما سبق .

                الثالث : أن الحكم قبل ظهوره للمجتهد هو حكم بالقوة لا بالفعل ، وإنما يصير حكما بالفعل إذا غلب على ظنه بالاجتهاد ، ومن زعم أنه قبل ذلك حكم بالفعل غلط ، وقال بالتعيين وعدم التصويب .

                الرابع : أن الأحكام - كالحل والحرمة - ليست من أوصاف الذوات ، حتى يستحيل أن يكون الشيء حلالا حراما ، بل هي إضافية ، فلا يستحيل ذلك بالإضافة إلى شخصين .

                [ ص: 615 ] الخامس : أن الأحكام أمور وضعية لا ذاتية ، فلا يمتنع أن تكون تابعة للظنون وإن اختلفت ، وقد ظهر ذلك في حال الرخص ، ينقلب الحرام مباحا ، ولو كان الحرام معنى ذاتيا لما تغير .

                السادس : أن أحكام الشرع لا قاطع عليها ، ولا يجوز الأمر بإصابة ما لا قاطع عليه ، إذ هو تكليف ما لا يطاق ، وهو وإن جاز ، لكنه خلاف الأصل .

                السابع : قال الغزالي : الحكم هو التكليف بشرط بلوغ المكلف ، ولا تكليف عند الله - عز وجل - قبل ذلك ، فلا حكم .

                قلت : بتقدير صحة تعريف الحكم بما ذكر ، لا يمنع تعيين الحكم عند الله - عز وجل - بعد البلوغ .

                الثامن : قال : الخطأ اسم قد يقال بالإضافة إلى ما وجب ، وهو الخطأ الحقيقي ، وقد يقال بالإضافة إلى ما طلب ، وهو مجاز .

                قلت : معنى ذلك أن الخطأ حقيقة ، إنما يكون فيما إذا أخطأ الشخص ما وجب عليه فعله ، أما إذا أخطأ ما طلبه ولم يجب بعد ، فذلك خطأ مجازا لا حقيقة ، وخطأ المجتهدين من هذا الباب ، لأن الحكم إنما يجب بعد ظهوره لهم بالاجتهاد ، فهم قبل ذلك طالبون له واجب عليهم .

                قلت : إن كان هذا مجازا شرعيا ، أو اصطلاحيا بين الأصوليين ، وإلا فالخطأ في اللغة أعم مما ذكر ؛ لأنه نقيض الصواب ، والصواب يتعلق بما طلب وبما وجب جميعا .

                الثالثة : الفرق بين المسائل الاجتهادية والقطعية مبهم ، وقد حققته في كتاب " إبطال التحسين والتقبيح " ، وأحسب أن الإشارة إليه سبقت في أوائل [ ص: 616 ] هذا الشرح ، فبتقدير ذلك لا يضر التأكيد بالإشارة إليه ههنا . فأقول : القطعية ما وجب اعتقاد الحكم فيها قطعا ، ولم يجز اعتقاد نقيضه ولا جوازه ، وإن كان محتملا . والاجتهادية بخلافه ، وذلك تابع للدليل ، فما دل عليه دليل قاطع لا يحتمل الخلاف ، أو احتمله احتمالا ضعيفا ، ليس له من القوة ما يعول عليه لأجله ، فهو قطعي ، وما دل عليه دليل ظني ، يحتمل النقيض احتمالا قويا ، يعذر فيه من صار إليه عقلا وعرفا ؛ فهو اجتهادي .

                وأحكام الشريعة بموجب هذا التقرير ثلاثة أقسام : لأن الحكم ، إما أن يستند إلى قاطع ، أو محتملا احتمالا يسوغ التعويل عليه لبعده ، فهو قاطع ، كمسألة وجود الصانع وتوحيده وقدمه ، وحدوث العالم ، وإرسال الرسل ، وما عرف من جهتهم من القواطع ، كالبعث وأحكام المعاد .

                وإما أن يستند إلى دليل ظني يحتمل النقيض احتمالا قويا ، فهو اجتهادي ، كأحكام الفروع الفقهية ، وأكثر أصول الفقه . وإما أن يتردد الدليل بين القاطع والظني ، فيكون دون القاطع ، وفوق الظني في القوة ، كبقية أحكام العقائد المختلف فيها بين طوائف الأمة ، مما اعتورتها الأدلة والشبه من الطرفين ، فهذه واسطة بين القطعي والاجتهادي ، تبعا لدليلها في ذلك ، والذي يقطع به أن إلحاقها بالاجتهاديات أولى ، لأن التكليف بالقطع - مع عدم دليل يفيده - تكليف ما لا يطاق ، وهو وإن جاز ، لكن وقوعه ممتنع أو نادر ، والله تعالى أعلم .




                الخدمات العلمية