الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
قال : قلت : حدثني رحمك الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث أسمعه منك ، قال : إني لم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم تكن لي معه صحبة بأبي وأمي رسول الله ، ولكن رأيت رجالا قد صحبوه ، وبلغني من حديثه كما بلغك ، ولست أحب أن أفتح على نفسي هذا الباب أن أكون محدثا ، أو مفتيا ، أو قاضيا ، في نفسي شغل عن الناس يا هرم بن حيان ، فقلت : يا أخي ، اقرأ علي آية من القرآن أسمعها منك ، وادع لي بدعوات ، وأوصني بوصية أحفظها عنك ، فإني أحبك في الله حبا شديدا ، قال : فقام ، وأخذ بيدي على شاطئ الفرات ، ثم قال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم بكى ، ثم قال : قال ربي ، والحق قول ربي وأصدق الحديث حديثه ، وأصدق الكلام كلامه ، ثم قرأ : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون حتى انتهى إلى قوله إنه هو العزيز الرحيم فشهق شهقة ظننت أنه قد غشي عليه ، ثم قال : يا ابن حيان ، مات أبوك حيان وتوشك ، أن تموت ، فإما إلى جنة ، وإما إلى نار ، ومات أبوك آدم ، وماتت أمك حواء ، ومات نوح ، ومات إبراهيم خليل الرحمن ، ومات موسى نجي الرحمن ، ومات داود خليفة الرحمن ، ومات محمد صلى الله عليه وسلم وهو رسول رب العالمين ، ومات أبو بكر خليفة المسلمين ، ومات عمر بن الخطاب أخي وصفيي ، ثم قال : يا عمراه ، يا عمراه . قال : فقلت : رحمك الله ، إن عمر لم يمت قال : فقد نعاه إلي ربي ، ونعى إلي نفسي ، ثم قال : أنا وأنت في الموتى كأنه قد كان ، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم دعا بدعوات خفيات ، ثم قال : هذه وصيتي إياك يا هرم بن حيان ; كتاب الله ، ونهج الصالحين المؤمنين فقد ، نعيت إلي نفسي ونفسك ، عليك بذكر الموت لا يفارق قلبك طرفة عين ما بقيت ، وأنذر قومك إذا رجعت إليهم وانصح للأمة جميعا وإياك أن تفارق الجماعة قيد شبر ، فتفارق دينك ، وأنت لا تعلم ، فتدخل النار يوم القيامة ادع لي ، ولنفسك ، ثم قال : اللهم إن هذا يزعم أنه يحبني فيك ، وزارني من أجلك ، فعرفني وجهه في الجنة ، وأدخله علي في دارك دار السلام واحفظه ما دام في الدنيا حيثما كان ، وضم عليه ضيعته وأرضه من الدنيا باليسير وما أعطيته من الدنيا فيسره له تيسيرا ، واجعله لما أعطيته من نعمائك من الشاكرين واجزه ، عني خير الجزاء ، ثم قال : أستودعك الله يا هرم بن حيان ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ، لا أراك بعد اليوم رحمك الله تطلبني ، فإني أكره الشهرة والوحدة أحب إلي إني ; كثير الهم ، شديد الغم مع هؤلاء الناس ما دمت حيا ، فلا تسأل عني ، ولا تطلبني ، واعلم أنك مني على بال ، وإن لم أرك ولم ترني ، فاذكرني وادع لي ; فإني سأذكرك ، وأدعو لك إن شاء الله ، انطلق أنت ههنا حتى أنطلق أنا ههنا .

فحرصت أن أمشي معه ساعة ، فأبى علي ، وفارقته ، فبكى ، وأبكاني ، وجعلت أنظر في قفاه حتى دخل بعض السكك ، ثم سألت عنه بعد ذلك ، فما وجدت أحدا يخبرني عنه بشيء رحمه الله ، وغفر له .

فهكذا كانت سيرة أبناء الآخرة المعرضين عن الدنيا .

وقد عرفت مما سبق في بيان الدنيا ، ومن سيرة الأنبياء والأولياء أن حد الدنيا كل ما أظلته الخضراء وأقلته الغبراء إلا ما كان لله عز وجل من ذلك . وضد الدنيا الآخرة ، وهو كل ما أريد به الله تعالى مما يؤخذ بقدر الضرورة من الدنيا لأجل قوة طاعة الله وذلك ليس من الدنيا .

ويتبين هذا بمثال وهو أن الحاج إذا حلف أنه في طريق الحج .

لا يشتغل بغير الحج ، بل يتجرد له ، ثم اشتغل بحفظ الزاد وعلف الجمل وخرز الراوية وكل ما لا بد للحج منه لم يحنث في يمينه ، ولم يكن مشغولا بغير الحج فكذلك البدن مركب النفس تقطع به مسافة العمر فتعهد البدن بما تبقى به قوته على سلوك الطريق بالعلم والعمل ، هو من الآخرة لا من الدنيا . نعم ، إذا قصد تلذذ البدن ، وتنعمه بشيء من هذه الأسباب كان منحرفا عن الآخرة ، ويخشى على قلبه القسوة قال الطنافسي كنت على باب بني شيبة في المسجد الحرام سبعة أيام طاويا فسمعت في الليلة الثامنة مناديا وأنا بين اليقظة والنوم : ألا من أخذ من الدنيا أكثر مما يحتاج إليه أعمى الله عين قلبه .

فهذا بيان حقيقة الدنيا في حقك فاعلم ذلك ترشد إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


(قال: قلت: حدثني - رحمك الله - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث أسمعه منك، قال: إني لم أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن لي معه صحبة بأبي [ ص: 126 ] وأمي) أفدي (رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن رأيت رجالا قد صحبوه، وبلغني من حديثه نحو ما بلغك، ولست أحب أن أفتح هذا الباب على نفسي أن أكون محدثا، أو مفتيا، أو قاضيا، في نفسي شغل عن الله يا هرم بن حيان، فقلت: يا أخي، اقرأ علي آية من القرآن أسمعه منك، وادع لي بدعوات، وأوصني بوصية أحفظها عنك، فإني أحبك في الله حبا شديدا، قال: فقام، وأخذ بيدي على شاطئ الفرات، ثم قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم بكى، ثم قال: قال ربي، والحق قول ربي وأصدق الحديث حديثه، وأصدق الكلام كلامه، ثم قرأ:وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون حتى انتهى إلى قوله تعالى: إنه هو العزيز الرحيم فشهق شهقة ظننت أنه أغشي عليه، ثم قال: يا ابن حيان، مات أبوك حيان، ويوشك أن تموت، فإما إلى الجنة، وإما إلى النار، ومات أبوك آدم، وماتت أمك حواء، ومات نوح، ومات إبراهيم خليل الرحمن، ومات موسى نجي الرحمن، ومات داود خليفة الرحمن، ومات محمد صلى الله عليه وسلم رسول رب العالمين، ومات أبو بكر خليفة المسلمين، ومات عمر بن الخطاب أخي، وصفيي، ثم قال: يا عمراه، يا عمراه .

قال: فقلت: رحمك الله، إن عمر لم يمت) بعد (فقال: فقد نعاه إلي ربي، ونعى إلي نفسي، ثم قال: أنا وأنت في الموتى كأنه قد كان، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا بدعوات خفيفات، ثم قال: هذه وصيتي إياك يا هرم بن حيان; كتاب الله، ونهج الصالحين المؤمنين، قد نعيت إلي نفسي ونفسك، عليك بذكر الموت لا يفارق قلبك طرفة عين ما بقيت، وأنذر قومك إذا رجعت إليهم) ، أي: لقوله تعالى: ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ، أي: حذرهم من عقاب الله تعالى (والنصح للأمة جميعا) ، أي: للخاصة والعامة، فقد ورد: الدين النصيحة (وإياك أن تفارق الجماعة) ، أي: جماعة المسلمين (قيد شبر، فتفارق دينك، وأنت لا تعلم، فتدخل النار يوم القيامة) ، فقد ورد: من فارق الجماعة شبرا، فقد فارق الإسلام، وفي لفظ: فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وفي لفظ: فهو في النار (ادع لي، ولنفسك، ثم قال: اللهم إن هذا يزعم أنه يحبني فيك، وزارني من أجلك، فعرفني وجهه في الجنة، وأدخله علي في دارك دار السلام واحفظه ما دام في الدنيا حيا حيثما كان، وضم عليه ضيعته) ، أي: ما يخاف عليه الضياع من عقار، أو حرفة، أو صناعة (وأرضه من الدنيا باليسير) ، أي: بالقليل مما يكف به وجهه (وما أعطيته من الدنيا فيسره له تيسيرا، واجعله لما أعطيته من نعمائك من الشاكرين، وأجره عني خير الجزاء، ثم قال: أستودعك الله يا هرم بن حيان، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، لا أراك بعد اليوم - رحمك الله - تطلبني، فإني أكره الشهرة) بين الناس (والوحدة أعجب إلي; إني كثير الهم، شديد الغم مع هؤلاء الناس ما دمت حيا، فلا تسأل عني، ولا تطلبني، واعلم أنك مني على بال، وإن لم أرك، وإن لم ترني، فاذكرني وادع لي; فإني سأذكرك، وأدعو لك إن شاء الله تعالى، انطلق أنت ههنا حتى أنطلق ههنا، فحرصت أن أمشي معه ساعة، فأبى علي، وفارقته، فبكى، وأبكاني، وجعلت أنظر في قفاه حتى دخل بعض السكك، ثم سألت عنه بعد ذلك، فما وجدت أحدا يخبرني عنه بشيء - رحمه الله تعالى -، وغفر له) .

[ ص: 127 ] هكذا أخرج هذه القصة بطولها أبو نعيم في الحلية، وأخرج الحاكم من طريق ابن المبارك، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن الجريري، عن أبي نفرة العبدي، عن أسير بن جابر، قال صاحب لي بالكوفة: هل لك في رجل تنظر إليه؟ فذكر قصة أويس، وفيها: فتنحى إلى سارية فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: ما لكم ولي تطؤون عقبي، وأنا إنسان ضعيف تكون لي الحاجة، ولا أقدر عليها معكم؟ لا تفعلوا رحمكم الله، من كانت له إلي حاجة، فليلقني بعشاء، ثم قال: إن هذا المجلس يغشاه ثلاثة نفر: مؤمن فقيه، ومؤمن لم يفقه، ومنافق، وذلك في الدنيا مثل الغيث فيصيب الشجرة المونقة المثمرة، فتزداد حسنا، ويناعا، وطيبا، ويصيب الشجرة غير المثمرة، فيزداد ورقها حسنا، وتكون لها ثمرة، ويصيب الهشيم من الشجر فيحطمه، ثم قرأ: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا اللهم ارزقني شهادة توجب لي الحياة، والرزق .

وإسناده صحيح .

وأخرج في الزهد، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن عبد الله بن أشعث بن سوار، عن محارب بن دثار رفعه: إن من أمتي من لا يستطيع أن يأتي مسجده، أو مصلاه من العري، يحجزه إيمانه أن يسأل الناس، منهم أويس القرني، وفرات بن حيان.

(فهكذا كانت سيرة أبناء الآخرة المعرضين عن الدنيا، وقد عرفت مما سبق في بيان الدنيا، ومن سيرة الأنبياء والأولياء أن حد الدنيا كل ما أظلته الخضراء) ، أي: السماء، سميت بها لخضرة لونها عند النظر إليها (وأقلته) ، أي: حملته (الغبراء) ، أي: الأرض، سميت لاغبرارها (إلا ما كان لله - عز وجل - من ذلك .

وضد الدنيا الآخرة، وهو كل ما أريد به الله تعالى مما يؤخذ بقدر الضرورة) الحاقة (من الدنيا لأجل قوة طاعة الله تعالى) ، والتبلغ به إليها (فذلك ليس من الدنيا) ، أي: ليس محسوبا منها (ويتبين هذا بمثال) يذكر (وهو أن الحاج إلى) بيت الله الحرام (إذا حلف أنه في طريق الحج لا يشتغل بغير أمور الحج، بل يتجرد له، ثم اشتغل بحفظ الزاد) الذي يتقوت به (وعلف الجمل) الذي يركبه (وخرز الراوية) ، أي: القربة التي يشرب منها (وكل ما لا بد للحج منه لم يحنث في يمينه، ولم يكن مشغولا بغير الحج) ، فهو صادق في يمينه (فكذلك البدن مركب النفس يقطع به مسافة العمر) ، أي: مدته (فتعهد البدن) ، أي: محافظته (لما يتقي به قوته على سلوك الطريق بالعلم والعمل، هو من الآخرة لا من الدنيا .

نعم، إذا قصد تلذذ البدن، وتنعمه بشيء من هذه الأسباب كان منحرفا عن الآخرة، ويخشى على قلبه) أحداث (القسوة) فيه بسبب ركونه إلى ذلك مع قصد التنعم (قال الطنافسي) ، وهو محمد بن عبيد بن أبي أمية الكوفي الأحدب الثقة، مات سنة أربع ومئتين، روى له الجماعة: (كنت على باب بني شيبة في المسجد الحرام) ، وهو أحد أبوابه المشهورة (سبعة أيام طاويا) على الجوع (فسمعت الليلة الثامنة مناديا وأنا بين اليقظة والنوم: ألا من أخذ من الدنيا أكثر مما يحتاج إليه أعمى الله عين قلبه) ، وقد ورد معنى ذلك في بعض الأخبار، والمراد بعين القلب البصيرة (فهذا بيان حقيقة الدنيا في حقك) ، فتأمل في معناها (فاعلم ذلك ترشد إن شاء الله تعالى) .




الخدمات العلمية