الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 7 ] فصل : وإن دفع رجل دابته إلى آخر ليعمل عليها ، وما يرزق الله بينهما نصفين أو أثلاثا أو كيفما شرطا ، صح ، نص عليه في رواية الأثرم ومحمد بن أبي حرب وأحمد بن سعيد . ونقل عن الأوزاعي ما يدل على هذا . وكره ذلك الحسن ، والنخعي وقال الشافعي ، وأبو ثور ، وابن المنذر وأصحاب الرأي : لا يصح ، والربح كله لرب الدابة ; لأن الحمل الذي يستحق به العوض منها .

                                                                                                                                            وللعامل أجر مثله ; لأن هذا ليس من أقسام الشركة ، إلا أن تكون المضاربة ، ولا تصح المضاربة بالعروض ، ولأن المضاربة تكون بالتجارة في الأعيان وهذه لا يجوز بيعها ولا إخراجها عن ملك مالكها . وقال القاضي : يتخرج أن لا يصح ، بناء على أن المضاربة بالعروض لا تصح ، فعلى هذا إن كان أجر الدابة بعينها فالأجر لمالكها ، وإن تقبل حمل شيء فحمله ، أو حمل عليها شيئا مباحا فباعه ، فالأجرة والثمن له ، وعليه أجرة مثلها لمالكها .

                                                                                                                                            ولنا ، أنها عين تنمى بالعمل عليها فصح العقد عليها ببعض نمائها ، كالدراهم والدنانير ، وكالشجر في المساقاة ، والأرض في المزارعة . وقولهم : إنه ليس من أقسام الشركة ، ولا هو مضاربة . قلنا : نعم ، لكنه يشبه المساقاة والمزارعة ، فإنه دفع لعين المال إلى من يعمل عليها ببعض نمائها مع بقاء عينها .

                                                                                                                                            وبهذا يتبين أن تخريجها على المضاربة بالعروض فاسد ; فإن المضاربة إنما تكون بالتجارة والتصرف في رقبة المال ، وهذا بخلافه . وذكر القاضي ، في موضع آخر ، في من استأجر دابة ; ليعمل عليها بنصف ما يرزقه الله تعالى أو ثلثه ، جاز . ولا أرى لهذا وجها ; فإن الإجارة يشترط لصحتها العلم بالعوض ، وتقدير المدة أو العمل ، ولم يوجد ، ولأن هذا عقد غير منصوص عليه ، ولا هو في معنى المنصوص ، فهو كسائر العقود الفاسدة ، إلا أن يريد بالإجارة المعاملة على الوجه الذي تقدم .

                                                                                                                                            وقد أشار أحمد إلى ما يدل على تشبيهه لمثل هذا بالمزارعة ، فقال : لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع ; لحديث جابر ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر . } وهذا يدل على أنه قد صار في هذا ومثله إلى الجواز ; لشبهه بالمساقاة والمزارعة ، لا إلى المضاربة ، ولا إلى الإجارة . ونقل أبو داود ، عن أحمد ، في من يعطي فرسه على النصف من الغنيمة : أرجو أن لا يكون به بأس .

                                                                                                                                            قال إسحاق بن إبراهيم : قال أبو عبد الله : إذا كان على النصف والربع ، فهو جائز . وبه قال الأوزاعي . ونقل أحمد بن سعيد ، عن أحمد ، في من دفع عبده إلى رجل ليكسب عليه ، ويكون له ثلث ذلك أو ربعه ، فجائز ، والوجه فيه ما ذكرناه في مسألة الدابة . وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله قمصانا يبيعها ، وله نصف ربحها بحق عمله ، جاز . نص عليه في رواية حرب ، وإن دفع غزلا إلى رجل ينسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه ، جاز . نص عليه .

                                                                                                                                            ولم يجز مالك وأبو حنيفة والشافعي شيئا من ذلك ; لأنه عوض مجهول وعمل مجهول . وقد ذكرنا وجه جوازه . وإن جعل له مع ذلك دراهم معلومة ، لم يجز . نص عليه . وعنه الجواز . والصحيح الأول . وقال أبو بكر : هذا قول قديم ، وما روي غير هذا فعليه المعتمد .

                                                                                                                                            قال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يقول : لا بأس بالثوب يدفع بالثلث والربع . وسئل عن الرجل يعطي الثوب بالثلث ودرهم ودرهمين ؟ قال : أكرهه ; لأن هذا شيء لا يعرف . والثلث إذا لم يكن معه شيء نراه جائزا ; لحديث جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر . قيل لأبي عبد الله : فإن كان النساج لا يرضى حتى يزاد على الثلث [ ص: 8 ] درهما ؟ قال : فليجعل له ثلثا وعشري ثلث ونصف عشر وما أشبه .

                                                                                                                                            وروى الأثرم ، عن ابن سيرين ، والنخعي ، والزهري ، وأيوب ، ويعلى بن حكيم ، أنهم أجازوا ذلك . وقال ابن المنذر : كره هذا كله الحسن وقال أبو ثور وأصحاب الرأي : هذا كله فاسد .

                                                                                                                                            واختاره ابن المنذر وابن عقيل ، وقالوا : لو دفع شبكته إلى الصياد ليصيد بها السمك بينهما نصفين ، فالصيد كله للصياد ، ولصاحب الشبكة أجر مثلها . وقياس ما نقل عن أحمد صحة الشركة ، وما رزق الله بينهما على ما شرطاه ; لأنها عين تنمى بالعمل فيها ، فصح دفعها ببعض نمائها كالأرض .

                                                                                                                                            ( 3623 ) فصل : قال ابن عقيل { : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان } . وهو أن يعطي الطحان أقفزة معلومة يطحنها بقفيز دقيق منها . وعلة المنع أنه جعل له بعض معموله أجرا لعمله ، فيصير الطحن مستحقا له عليه . وهذا الحديث لا نعرفه ، ولا يثبت عندنا صحته ، وقياس قول أحمد جوازه ; لما ذكرناه عنه من المسائل .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية