الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          ومن عدم مفتيا ( ببلده ) وغيره فحكمه ما قيل : الشرع . وقيل يفتي مستور الحال ، ويفتي الفاسق نفسه ، ويحرم تساهل مفت وتقليد معروف به : قال المروذي : أنكر أبو عبد الله على من يتهجم في المسائل والجوابات : [ ص: 429 ] وقال : ليتق الله عبد ولينظر ما يقول ، فإنه مسئول : وقال : يتقلد أمرا عظيما : وقال عرضها لأمر عظيم ، إلا أنه قد تجيء ضرورة ، قال الحسن : إن تركناهم وكلناهم إلى غير سديد : وقال شيخنا : لا يجوز استفتاء إلا ممن يفتي بعلم وعدل ، ونقل ابن منصور : لا ينبغي أن يجيب في كل ما يستفتى . ونقل محمد بن أبي طاهر عنه : لست أفتي في الطلاق بشيء . ونقل محمد بن أبي حرب سئل عمن يفتي بغير علم قال : يروى عن أبي موسى : يمرق من دينه . ونقل أبو داود أنه ذكر { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ، عن ابن عباس أنه ليس بكفر ، ينقل عن الملة .

                                                                                                          ونقل الأثرم : إذا هاب الرجل شيئا لا ينبغي أن يحمل على أن يقول . وسئل أحمد عن مسألة في اللعان فقال : مثل رحمك الله عما تنتفع به .

                                                                                                          وقال أيضا : دعنا من المسائل المحدثة خذ فيما فيه حديث : وقال شيخنا : فيمن سأله عن رجل استولد أمة ثم وقفها في حياته هل يكون وقفا بعد موته ؟ قال : السائل لهذه المسألة يستحق التعزير البليغ الذي يزجره وأمثاله من الجهال عن مثل هذه الأغلوطات . فإن هذا السائل إنما قصد التغليط لا الاستفتاء ، وقد { نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أغلوطات المسائل } ، إذ لو كان مستفتيا لكان حقه أن يقول هل يصح وقفها أم لا ؟ أما سؤاله عن الوقف بعد الموت فقط مع ظهور حكمه فتلبيس على المفتي ، وتغليط حتى أظن أن وقفها في الحياة صحيح .

                                                                                                          وقال ابن هبيرة عن قول أبي موسى : { سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها ، فلما أكثر [ ص: 430 ] عليه غضب } . الحديث متفق عليه قال : يدل على كراهية كثرة السؤال ، قال : ولا أرى ذلك مكروها إلا السؤال عما لا يعني ، أو تصوير أحداث لم تقع ، ولا يتصور وقوعها إلا نادرا ، فلا يشغل بها الوقت العزيز ، ولا يلتفت لأجلها عن أهم منها . وإن اعتدل عنده قولان وقلنا : يجوز أفتى بأيهما شاء ، وإلا تعين الأحوط . وله تخيير من أفتاه بين قوله وقول مخالفه ، روي عن أحمد ، وقيل : يأخذ به إن لم يجد غيره أو كان أرجح ، سأله أبو داود عن الرجل يسأل عن المسألة ، أدله على إنسان يسأله ؟ قال : إذا كان الذي أرشد إليه يتبع ويفتي بالسنة ، فقيل له : إنه يريد الاتباع وليس كل قوله يصيب ، قال : ومن يصيب في كل شيء ؟ قلت : يفتي برأي مالك ؟ قال : لا يتقلد من مثل هذا بشيء . ومراده أن مالكا رحمه الله تعالى عند أحمد غاية ، ولهذا نقل أبو داود ، وعنه : مالك أتبع من سفيان .

                                                                                                          ونقل عنه أيضا : لا يعجبني رأي مالك ولا رأي أحد .

                                                                                                          وقال ابن الجوزي في كتابه السر المكتوم : هذه الفصول هي أصول الأصول ( وهي ) ظاهرة البرهان ، لا يهولنك مخالفتها لقول معظم في النفس ولطعام وقد قال رجل لعلي عليه السلام : أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير على الخطإ وأنت على الصواب ؟ فقال : إنه ملبوس عليك ، اعرف الحق تعرف أهله .

                                                                                                          وقال رجل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : إن ابن المبارك قال [ ص: 431 ] كذا ، فقال : إن ابن المبارك لم ينزل من السماء .

                                                                                                          وقال أحمد : من ضيق على الرجل أن يقلد ، والله أعلم : وقال أيضا : لما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بعثه على أقوم منهاج ، وأحسن الآداب ، فكان أصحابه على طريقه وجمهور التابعين ، ثم دخلت آفات وبدع ، فأكثر السلاطين يعملون بأهوائهم وآرائهم ، لا بالعلم ، ويسمون ذلك سياسة ، والسياسة هي الشريعة . والتجار يدخلون في الربا ولا يعلمون وقد يعلمون ولا يبالون ، وصار جمهور العلماء في تخليط ، منهم من يقتصر على صورة العلم ويترك العمل به ، ظنا منه أنه يسامح لكونه عالما ، وقد نسي أن العلم حجة عليه .

                                                                                                          ومنهم من يطلب العلم للرياسة لا للعمل به ، فيناظر ، ومقصوده الغلبة لا بيان الحق ، فينصر الخطأ ، ومنهم من يجترئ على الفتيا وما حصل شروطها ، ومنهم من يداخل السلاطين فيتأذى هو مما يرى من الظلم ولا يمكنه الإنكار ، ويتأذى فيقول : لولا أني على صواب ما جالسني هذا ، ويتأذى ، العوام بذلك فيقولون : لولا أن أمر السلطان قريب ما خالطه هذا العالم ، ورأيت الأشراف يثقون بشفاعة آبائهم وينسون أن اليهود بنو إسرائيل ، ورأيت القصاص لا ينظرون في الصحيح ، ويبيعون بسوق الوقت ورأيت أكثر العباد على غير الجادة ، فمنهم من صح قصده ، ولا ينظرون في سيرة الرسول وأصحابه ، ولا في [ ص: 432 ] أخلاق الأئمة المقتدى بهم ، بل قد وضع جماعة من الناس لهم كتبا فيه رقائق قبيحة ، وأحاديث غير صحيحة ، وواقعات تخالف الشريعة ، مثل كتب الحارث المحاسبي وأبي عبد الله الترمذي وأبي طالب المكي ، فيسمع المبتدئ ذم الدنيا ولا يدري ما المذموم ، فيتصور ذم ذات الدنيا ، فينقطع في الجبل ، ويقتصر على البلوط والكمثرى أو اللبن أو العدس ، وإنما ينبغي لقاصد الحج أن يرفق بالناقة ليصل . ثم ذكر بعض ما ننقل عن أبي يزيد [ وداود الطائي وبشر وغيرهم فحلف أبو يزيد ] لا يشرب الماء سنة .

                                                                                                          وكان داود يشرب الماء الحار من دن ، ويقول بشر : أشتهي منذ خمسين سنة الشواء فما صفا لي درهمه ، وتكلم عليه بمقتضى الشرع وقال : التقليد للأكابر أفسد العقائد ، ولا ينبغي أن يناظر بأسماء الرجال ، إنما ينبغي أن يتبع الدليل ، فإن أحمد بن حنبل أخذ في الجد بقول زيد بن ثابت وخالف أبا بكر الصديق رضي الله عنهم ، وقد قال علي عليه السلام : اعرف الحق تعرف أهله . وقد ذكر لأحمد بن حنبل كلمات عن إبراهيم بن أدهم فقال : وقفنا في ثنيات الطريق ، عليك ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وتكلم أحمد في الحارث المحاسبي ، وبلغه عن سري السقطي أنه قال : لما خلق الله تعالى الحروف وقف الألف وسجدت الباء . فقال : نفروا الناس عنه ، وكان الشافعي يرد على مالك . وهذه طريقة المتزهدين ، لم يكن عليها الرسول صلى الله عليه وسلم [ ص: 433 ] ولا أصحابه ، ولا سلكوا ما رتبه أبو طالب المكي في الرياضة .

                                                                                                          ثم ذكر أن هؤلاء المتزهدين إن رأوا عالما لبس ثوبا جميلا أو تزوج مستحسنة أو ضحك ، عابوه ، وهذا في أوائل الصوفية ، فأما في زماننا فلا يعرفون التعبد ولا التقلل ، وقنعوا في إظهار الزهد بالقميص المرقع ، فما العجب في نفاقهم ، إنما العجب نفاقهم ، ثم ذكر أنهم يدخلون في قوله تعالى { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } وكيف لا يوصف بالاستدراج من يعمل لثبوت الجاه بين الخلق ويمضي عمره في تربية رياسته ليقال هذا فلان ، أو في تحصيل شهواته الفانية مع سوء القصد ، وقال : طلب الرياسة والتقدم بالعلم مهلكة لطالبي ذلك ، فترى أكثر المتفقهين يتشاغلون بالجدل ويكثر منهم رفع الأصوات في المساجد بذلك ، وإنما المقصود الغلبة والرفعة ، فهم داخلون في قوله صلى الله عليه وسلم { من تعلم علما ليباهي به العلماء ، أو ليماري به السفهاء ، أو ليصرف وجه الناس إليه لم يرح رائحة الجنة } ومنهم من يفتي ولا يبلغ درجة الفتوى ، ويري الناس صورة تقدمه فيستفتونه ولو نظر حق النظر وخاف الله تعالى علم أنه لا يحل له أن يفتي .

                                                                                                          وإن حدث ما لا قول فيه تكلم فيه حاكم ومجتهد ومضت ، وقيل : لا يجوز ، وقيل : في الأصول ، وله رد الفتيا إن كان بالبلد قائم مقامه ، [ ص: 434 ] وإلا لم تجز ، وإن كان معروف عند العامة بالفتيا ، وهو جاهل ، تعين الجواب .

                                                                                                          وقال شيخنا : الأظهر : لا يجب في التي قبلها ، كسؤال عامي عما لم يقع ، ويتوجه مثله حاكم في البلد غيره لا يلزمه الحكم ، وإلا لزمه .

                                                                                                          وفي عيون المسائل في شهادة العبد : الحكم يتعين بولايته حتى لا يمكنه رد محتكمين إليه ، ويمكنه رد من يستشهده وإن كان متحملا لشهادة فنادر أن لا يكون سواه ، وفي الحكم لا ينوب البعض عن البعض ، ولا يقول لمن ارتفع إليه : امض إلى غيري من الحكام .

                                                                                                          ويتوجه في المفتي والحاكم تخريج من الوجه في إثم من دعي إلى شهادة ، قالوا : لأنه تعين عليه بدعائه ، لكن يلزم عليه إثم كل من عين في كل فرض كفاية فامتنع ، وكلامهم في الحاكم ودعوة الوليمة وصلاة الجنازة خلافه ، وإن توجه تخريج في الكل ، وإلا قيل : الأصل عدم التعيين بالتعيين ، وفي الكل خولف في الشهادة على وجه ، لقوله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } فيقتصر عليه ، وقوله كسؤال عما لم يقع ، ومن قوي عنده مذهب غير إمامه أفتى به وأعلم السائل ، ومن أراد كتابة في فتيا أو شهادة لم يجز أن يكبر خطه لتصرفه في ملك غيره بغير إذنه ، ولا حاجة ، كما لو أباحه قميصه فاستعمله فيما يخرج عن العادة بلا حاجة ، ذكره في المنثور وغيره ، وكذا في عيون المسائل : إذا أراد أن يفتي أو يكتب شهادة لم يجز له أن يوسع الأسطر ، ولا يكثر إذا [ ص: 435 ] أمكن الاختصار ، لأنه تصرف في ملك غيره بلا إذنه ، ولم تدع الحاجة إليه .

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          الخدمات العلمية