الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم إنه قد أخبر أن الإيمان والطاعة خير من الكفر والمعصية للعبد في الدنيا والآخرة ، وإن كان لجهله يظن أن ذلك خير له في الدنيا ، كما يقوله هؤلاء الذين فيهم شعبة وهل ونفاق ، الذين يقولون : إن المأمور به قد لا يكون فيه للعبد مصلحة ولا منفعة طول عمره ، بل يكون ذلك في المنهي عنه ، فقال تعالى : كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون [البقرة :216] .

وقال عن الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ، الذين طلبوا ما في ذلك من نعيم الدنيا : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون [البقرة :102] . فأخبر أنهم يعلمون أن هذه الأمور لا تنفع بعد الموت ، بل لا يكون لصاحبها نصيب في الآخرة ، وإنما طلبوا بها منفعة الدنيا ، وقد يسمون ذلك العقل المعيشي ، أي العقل الذي يعيش به الإنسان في الدنيا عيشة طيبة . [ ص: 261 ]

فقال تعالى : ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون [البقرة :103] . أخبر أن أولياءه : الذين آمنوا وكانوا يتقون [يونس :63] ، يثيبهم على ذلك ما هو خير لهم مما طلبوه في الدنيا لو كانوا يعلمون ، فيحصل لهم في الدنيا من الخير الذي هو المنفعة ودفع المضرة ما هو أعظم مما يحصلونه بذلك من خير الدنيا ، كما قال تعالى : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين [يوسف :56] ، ثم قال : ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون [يوسف :57] .

وقال تعالى : وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ، والله يحب المحسنين [آل عمران :147 - 148] . وقال عن إبراهيم : وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين [العنكبوت :27] .

وقد قال تعالى ما يبين به أن فعل المكروه من المأمور به خير من تركه في الدنيا أيضا ، فقال : ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما [النساء :66 - 68] . وهذا في سياق حال : الذين يزعمون [ ص: 262 ] أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا [النساء :60 - 61] .

وهؤلاء منافقون من أهل الكتاب والمشركين ، وحالهم أيضا شبيه بحال الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان [البقرة :101 - 102] ، فإن أولئك عدلوا عما في كتاب الله إلى اتباع الجبت والطاغوت : السحر والشيطان ، وهذه حال الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، الذين يؤمنون بالجبت والطاغوت . وحال الذين يتحاكمون إلى الطاغوت من المظهرين للإيمان بالله ورسله ، فيها من حال هؤلاء بقدر ذلك . والطاغوت : كل معظم ومتعظم بغير طاعة الله ورسوله من إنسان أو شيطان أو شيء من الأوثان .

وهذه حال كثير ممن يشبه اليهود من المتفقهة والمتكلمة وغيرهم ممن فيه نوع نفاق من هذه الأمة ، الذين يؤمنون بما خالف كتاب الله وسنة رسوله من أنواع الجبت والطاغوت ، والذين يريدون أن يتحاكموا إلى غير كتاب الله وسنة رسوله . قال تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون [ ص: 263 ] بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا [النساء :61 - 62] . أي هؤلاء لم يقصدوا ما فعلوه من العدول عن طاعة الله ورسوله إلى اتباع ما اتبعوه من الطاغوت ، إلا لما ظنوه من جلب المنفعة لهم ودفع المضرة عنهم ، مثل طلب علم وتحقيق كما يوجد في صنف المتكلمين ، ومثل طلب أذواق ومواجيد كما يوجد في صنف المتعبدين ، ومثل طلب شهوات ظاهرة وباطنة كما يوجد في صنف الذين يريدون العلو والذين يتبعون شهوات الغي . قال تعالى : ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا [النساء :60] . أي ضلوا عن مطلوبهم الذي هو جلب المنفعة ودفع المضرة ، فإن ذلك إنما هو في طاعة الله ورسوله دون اتباع الطاغوت . فإذا عاقبهم الله بنقيض مقصودهم في الدنيا ، فأصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم قالوا : ما أردنا بما فعلنا إلا إحسانا وتوفيقا . أي أردنا الإحسان إلى نفوسنا لا ظلمها ، وتوفيقا أي جمعا بين هذا وهذا ، لنجمع الحقائق والمصالح . قال تعالى : أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم [النساء :] من الاعتقادات الفاسدة والإرادات الفاسدة : الظن وما تهوى الأنفس فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا [النساء :63] . ثم قال : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما [النساء :64] .

فدعاهم سبحانه بعد ما فعلوه من النفاق إلى التوبة ، وهذا من [ ص: 264 ] رحمته بعباده ، يأمرهم قبل المعصية بالطاعة وبعد المعصية بالاستغفار ، وهو رحيم بهم في كلا الأمرين ، وأمره لهم بالطاعة أولا من رحمته ، وأمرهم ثانيا بالاستغفار من رحمته ، فهو سبحانه رحيم بالمؤمنين الذين أطاعوه أولا ، والذين استغفروه ثانيا . فإذا كان رحيما بمن يطيعه ، والرحمة توجب إيصال ما ينفعهم إليهم ودفع ما يضرهم عنهم ، كيف يكون المأمور به مشتملا على ضررهم دون منفعتهم ؟

وقوله : جاءوك المجيء إليه في حضوره معلوم كالدعاء إليه ، وأما في مغيبه ومماته فالمجيء إليه كالدعاء إليه والرد إليه ، قال تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول [النساء :61] ، وقال : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [النساء :59] ، وهو الرد والمجيء إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة . وكذلك المجيء إليه لمن ظلم نفسه هو الرجوع إلى ما أمره به ، فإذا رجع إلى ما أمره به فإن الجائي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ممن ظلم نفسه يجيء إليه داخلا في طاعته راجعا عن معصيته ، كذلك في مغيبه ومماته . واستغفار الله موجود في كل مكان وزمان ، وأما استغفار الرسول فإنه أيضا يتناول الناس في مغيبه وبعد مماته ، فإنه أمر أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات ، وهو مطيع لله فيما أمره به . والتائب داخل في الإيمان ، إذ المعصية تنقص الإيمان ، والتوبة من المعصية تزيد في الإيمان بقدرها ، فيكون له من استغفار النبي صلى الله عليه وسلم بقدر ذلك .

فأما مجيء الإنسان إلى عند قبره ، وقوله : استغفر لي أو ادع لي ، أو [ ص: 265 ] قوله في مغيبه : يا رسول الله ادع لي أو استغفر لي أو سل لي ربك كذا وكذا ، فهذا لا أصل له ، ولم يأمر الله بذلك ، ولا فعله أحد من الصحابة ولا سلف هذه الأمة المعروفين في القرون الثلاثة ، ولا كان ذلك معروفا بينهم ، ولو كان هذا مما يستحب لكان السلف يفعلون ذلك ، ولكان ذلك معروفا عنهم بل مشهورا بينهم ومنقولا عنهم ، فإن مثل هذا -إذا كان طريقا إلى غفران السيئات وقضاء الحاجات- مما تتوفر الهمم والدواعي على فعله وعلى نقله ، لا سيما فيمن كانوا أحرص الناس على الخير ، فإذا لم يعرف أنهم كانوا يفعلون ذلك ولا نقله أحد عنهم علم أنه لم يكن مما يستحب ويؤمر به . بل المنقول الثابت عنهم ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من نهيه عن اتخاذ قبره عيدا ووثنا ، وعن اتخاذ القبور مساجد .

التالي السابق


الخدمات العلمية