الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 124 ] فصل

في الكلام على حديث «اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك...» [ ص: 126 ] قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية رضي الله عنه:

فصل

الدعاء الذي رواه الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره، ورواه ابن حبان في صحيحه، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله مكانه فرحا»، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمه؟ قال: «بلى، ينبغي لمن سمعه أن يتعلمه». [ ص: 128 ]

هذا الحديث فيه فوائد:

* منها: أن أسماء الله تعالى أكثر من تسعة وتسعين اسما; فإن قوله في الحديث الصحيح: «إن لله تسعة وتسعين اسما، مئة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة»، إنما أراد المحصى ; لقوله: «من أحصاها»، كما يقال: عندي مئة غلام أعددتهم للجهاد. وهذا قول الأكثرين، كالخطابي وغيره. وقد قيل: إنه ليس لله إلا تسعة وتسعون اسما. وهو قول ابن حزم.

* ومنها: أن في الحديث تنبيها على أصلي الصفات والقدر، والتوحيد والعدل.

فإن قوله: «بكل اسم هو لك، سميت به نفسك» دليل على أنه سبحانه يسمي نفسه بأسماء ليست مخلوقة من صنع الآدميين. [ ص: 129 ]

وكذلك قوله: «أو استأثرت به في علم الغيب عندك» دليل على أن من أسمائه ما لا يعلمه غيره.

وهذا يدل على تكلمه بأسمائه، واختصاصه بذلك.

وعند الجهمية القائلين بخلق القرآن لا يقوم به كلام، ولا يتكلم، بل إذا خاطب غيره خلق في الهواء كلاما; فلا يتصور عندهم أن يكون له كلام اختص به عن أسماع المخلوقين.

ولهذا كان قوله أيضا: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» حجة عليهم أيضا.

* وقوله: «أو أنزلته» «أو علمته» «أو استأثرت به» هو تفصيل لما سمى به نفسه; فإن ما سمى به نفسه إما أن يعلمه أحدا بخطاب أو كتاب، أو لا يعلمه أحدا، بل يستأثر به في علم الغيب عنده.

وإن كان الحديث بلفظ «أو» فإن «أو» حرف عطف، والعطف قد يكون للخاص على العام، كقوله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى [النحل: 90]، وقوله تعالى: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم [الأحزاب: 7]، وقوله تعالى: من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال [البقرة: 98]، وقوله تعالى: ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير [الحج: 8].

* وقوله: «ربيع قلبي»، الربيع هو: المطر الذي ينبت ربيع الأرض، [ ص: 130 ] فسأل أن يجعل القرآن ماء ونورا لقلبه، فيحيى به قلبه كما تحيى الأرض بوابل السماء، وينور الله به قلبه.

والحياة والنور جماع الخير، كما قال تعالى: أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس [الأنعام: 122].

ولهذا ضرب الله مثل الإيمان بالماء والنار في قوله: أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل الآية [الرعد: 17].

وضرب مثل المنافقين بما انطفأ ضوؤه، وبالصيب الذي فيه رعد وبرق، فقال: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق الآية [البقرة: 17 – 19].

* ثم لما ذكر تحصيل الخير ذكر دفع الشر، فقال: «وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي»، والفرق بينهما: أن الحزن يتعلق بالماضي، والهم يتعلق بالمستقبل، والغم يتعلق بالحاضر.

* وقوله: «ماض في حكمك، عدل في قضاؤك»، رد على طائفتي المعتزلة والجهمية، ويدخل في ذلك القدرية، ومن غلاة أهل الإثبات المجبرة ونحوهم; فإن القدرية تنكر أن يقدر الله على تغيير أعمال عباده، أو [ ص: 131 ] هدايتهم أو إضلالهم، بل تنكر أن يقدر على ما به يهتدي العبد غير ما خلقه فيه.

فقوله: «ماض في حكمك» اعتراف بنفاذ حكم الله فيه، وأنه ما شاء الله به فعله، لا مخرج له عن حكمه.

ومعلوم أنه لم يرد مجرد الأمر والنهي الشرعيين; فإن العبد قد يطيع تارة ويعصي أخرى، وإن كانت الطاعة واجبة عليه، بل أراد الحكم القدري الكوني الذي هو كلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر.

فهذا يبين أن حكم الله القدري ماض في العباد، وهو رد على القدرية الذين لا ينفذون له مشيئة، ولا يجعلون له على ذلك قدرة.

ثم قوله بعد ذلك: «عدل في قضاؤك» دليل على أن الله عادل فيما يفعله بالعبد من القضاء كله، خيره وشره، حلوه ومره.

فجمع في الحديث الإيمان بالقدر، والإيمان بأن الله عادل فيما قضاه، وهذا رد على الطائفتين:

أما القدرية، فعندهم لو كان حكمه فيه ماضيا لكان ظالما له بإضلاله وعقوبته.

وأما أندادهم من الجبرية ونحوهم، فيقولون: الظلم لا حقيقة له، بل هو الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، فلا يقدر الله عندهم على ما يسمى [ ص: 132 ] ظلما حتى يقال: ترك الظلم وفعل العدل; فيكون قوله: «عدل في قضاؤك» كلاما لا فائدة فيه عندهم، بل هو بمنزلة «ماض في حكمك»، ولا يكون سبحانه ممدوحا بفعل العدل!

والحديث دليل على الثناء على الله بأنه مع كمال قدرته فإنه عادل في قضائه، كما قال: له الملك وله الحمد [التغابن: 1]، فهو له الملك، وله الحمد، ولهذا كان مستحقا للحمد على كل حال.

ولو كان الظلم عبارة عما لا يقدر عليه لم يمدح ويثنى عليه بترك ما لا يقدر عليه، كما لا يقال: لك الحمد إذ لم تخلق مثل نفسك، ولك الحمد إذ لم تعدم ذاتك. والمجبرة عندهم تركه للظلم من هذا الباب، وعدله هو مجرد الخلق; فيكون قوله: «عدل في قضاؤك» عندهم: أي موجود في قضاؤك، أو ثابت في قضاؤك. وهذا معنى قوله: «ماض في حكمك».

فعلم أن معنى حكمه يعود إلى قدرته ونفاذ مشيئته، وعدله في قضائه يعود إلى أنه يشاء ويختار ما هو عدل لا ما هو ظلم، وأنه لا يشاء أن يظلم، ولا يريد ذلك، ولا يختاره، وهو محمود على ذلك، وإن كان لو شاءه لكان قادرا عليه، كما لا يشاء ما أخبر أنه لا يكون، وعلم أنه لا يكون، وإن كان قادرا عليه.

كما أخبر في غير موضع من كتابه أنه لو شاء لفعل غير ما فعل، فقال تعالى: بلى قادرين على أن نسوي بنانه [القيامة: 4]، وقال تعالى: وإنا على ذهاب به لقادرون [المؤمنون: 18].

وقال تعالى: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا [الأنعام: 65]، [ ص: 133 ] ومنها أمران لا يكونان، وهو العذاب من فوقهم، ومن تحت أرجلهم، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم ، فقال: «أعوذ بوجهك»، أو من تحت أرجلكم ، فقال: «أعوذ بوجهك»، أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ، فقال: «هاتان أهون».

والحكم هو الأمر، وهو أمر التكوين، فمعناه هو بوجود المأمور به الذي قيل له: «كن» فيكون.

وأما القضاء، فهو الإكمال والإتمام، كما قال تعالى: فقضاهن سبع سماوات في يومين [فصلت: 12]، وقال الشاعر:


وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع

وذلك هو كمال الوجود المخلوق، فلا بد من كونه واقعا على العدل، كما قال: خلقك فسواك فعدلك [الانفطار: 7].

وفرق صلى الله عليه وسلم بين لفظي «القضاء» و «الحكم»، ووصف الحكم بالنفاذ، والقضاء بالعدل; لأن القضاء هو الإكمال والإتمام لما يخلقه، فوصفه [ ص: 134 ] بأنه بعد كماله وتمامه عدل لا ظلم فيه.

وأما الحكم فهو مبدأ التكوين، مثل كونه يقول للشيء: «كن» فيكون، فهذا إذا كان نافذا لا يرده شيء كان دالا على كمال القدرة.

فوصفه بكمال القدرة، وكمال العدل; فإن العدل شامل لكل ما خلقه، والقدرة متناولة لكل ما شاءه.

ووصف العدل بالتمام والكمال; لأن العدل المطلوب هو الغاية والنهاية.

وكلا الأمرين: القضاء، والعدل، يتعلق بالنهاية والعلة الغائية، وهما متعلقان بإلهيته تعالى.

وأما الحكم فهو نفاذ مشيئته.

فهذا متعلق بقدرته، وهذا متعلق بربوبيته; فدل الحديث على كماله في ربوبيته، وأنه له الملك كله، وعلى كماله في إلهيته، وأنه له الحمد كله، وأن إلهيته متضمنة لربوبيته، كما أن ربوبيته مستلزمة لإلهيته، كما أن قضاءه متضمن لحكمه، كما أن حكمه مستلزم لقضائه.

ولما كانت الإلهية متضمنة للربوبية كان اسمه الذي هو «الله» مقدما على الاسم الذي هو «الرب»، وكان بذلك الاسم يذكر، ويثنى عليه، ويسبح، ويحمد، ويكبر في الصلوات والأذان، وغير ذلك.

ولهذا كان سبحانه يقرن بين اسمي: القدرة، والحكمة، كقوله: وهو العزيز الحكيم [إبراهيم: 4]، [ ص: 135 ] وقوله: إنه عزيز حكيم [الأنفال: 63]، وقوله: فإن ربي غني كريم [النمل: 40]، وقوله تعالى: هو الغني الحميد [لقمان: 26].

والعزة خصوص في القدرة، كما أن الحكمة خصوص في الإرادة... وهو متضمن للعلم.

ولا يكون حكيما إلا من أراد ما ينبغي أن يراد، لا من كان يستوي عنده إرادة كل شيء، ولا يكون حكيما إلا من أمر بما ينبغي أن يؤمر به، ونهى عما ينبغي أن ينهى عنه، لا من كان يستوي عنده الأمر بكل شيء، والنهي عن كل شيء. كما لا يوصف بأنه حكيم إلا من كان صادقا في خبره، لا من يستوي عنده الإخبار بالصدق والكذب.

والعزيز من العزة، والعرب تقول: «عز يعز» -بالفتح- إذا صلب، و «عز يعز» -بالكسر- إذا امتنع من غيره، و «عز يعز» -بالضم- إذا غلب غيره، كقوله: وعزني في الخطاب [ص: 23]; فأقوى الحركات لأقوى المعاني، وهو الضم. وأوسطها لأوسطها، وهو الكسر. وأخفها لأخفها، وهو الفتح. [ ص: 136 ]

والأخف -وهو قولهم: «عز يعز» بالفتح- يتضمن القدرة، فكيف بالثاني والثالث؟! والله أعلم.

آخر ما وجد منها بخط الشيخ رحمه الله تعالى، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه.

* * *

التالي السابق


الخدمات العلمية