الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 595 ] باب نشوز المرأة على الرجل ، من الجامع من كتاب نشوز الرجل على المرأة ، ومن كتاب الطلاق ، ومن أحكام القرآن

                                                                                                                                            قال الشافعي ، رحمه الله : قال الله تبارك وتعالى واللاتي تخافون نشوزهن الآية ، ( قال ) : وفي ذلك دلالة على اختلاف حال المرأة فيما تعاتب فيه وتعاقب عليه ، فإذا رأى منها دلالة على الخوف من فعل أو قول وعظها ، فإن أبدت نشوزا هجرها ، فإن أقامت عليه ضربها ، وقد يحتمل تخافون نشوزهن إذا نشزن ، فخفتم لجاجتهن في النشوز ، يكون لكم جمع العظة والهجر والضرب ، وقال عليه السلام لا تضربوا إماء الله ، قال : فأتاه عمر رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ذئر النساء على أزواجهن ، فأذن في ضربهن ، فأطاف بآل محمد نساء كثير كلهن يشتكين أزواجهن ، فقال صلى الله عليه وسلم : لقد أطاف بآل محمد سبعون امرأة كلهن يشتكين أزواجهن ، فلا تجدون أولئك خياركم ، ويحتمل أن يكون قوله عليه السلام قبل نزول الآية بضربهن ، ثم أذن فجعل لهم الضرب ، فأخبر أن الاختيار ترك الضرب " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : أما نشوز المرأة على زوجها ، فهو امتناعها عليه إذا دعاها إلى فراشه مأخوذ من الارتفاع ، ولذلك قيل للمكان المرتفع نشز فسميت الممتنعة على زوجها ناشزا ؛ لارتفاعها عنه وامتناعها منه ، ولا يخلو حال النشوز بين الزوجين من أربعة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون النشوز من الزوج على الزوجة ، والأصل فيه قول الله تعالى : وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير [ النساء : 128 ] . وقد مضى الكلام فيما يلزمه بنشوزه عنه ، وما لا يلزمه ، فإن الذي يؤخذ به جبرا في نشوزه النفقة والكسوة والسكنى ، والقسم الذي يندب إليه استحبابا ألا يهجر مباشرتها ولا يظهر كراهيتها ولا يسيء عشرتها .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يكون النشوز من الزوجة على الزوج ، والأصل في بيان حكمه قول الله تعالى : الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم [ النساء : 34 ] ، [ ص: 596 ] يعني أن الرجال أهل قيام على نسائهم في تأديبهن ، والأخذ على أيديهن فيما يجب لله تعالى ، وللرجال عليهن ، وقوله : بما فضل الله بعضهم على بعض [ النساء : 34 ] . يعني بما فضل الله تعالى له الرجال على النساء من العقل والرأي ، وبما أنفقوا من أموالهم من المهور والقيام بالكفاية ، ثم قال : فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله [ النساء : 34 ] ، يعني فالصالحات المستقيمات الدين العاملات بالخير ، ويعني بالقانتات المطيعات لله تعالى ولأزواجهن وحافظات للغيب ، أي لأنفسهن عند غيبة أزواجهن ، ولما أوجبه من حقوقهم عليهن .

                                                                                                                                            وفي قوله : بما حفظ الله فيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : يعني بحفظ الله تعالى لهن حتى صرن كذلك . وهو قول عطاء .

                                                                                                                                            والثاني : بما أوجبه الله تعالى على أزواجهن من مهورهن ونفقاتهن ، حتى صرن بها محفوظات . وهو قول الزجاج .

                                                                                                                                            وقد روى ابن المبارك عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : الرجال قوامون على النساء [ النساء : 34 ] . إلى آخر الآية .

                                                                                                                                            ثم قال تعالى : واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا [ النساء : 34 ] . فأباح الله تعالى معاقبتها على النشوز بثلاثة أشياء : بالعظة ، والضرب ، والهجر .

                                                                                                                                            ثم قال : فإن أطعنكم يعني في الإقلاع عن النشوز ، فلا تبغوا عليهن سبيلا ، فيه تأويلان :

                                                                                                                                            أحدهما : فلا تقابلوهن بالنشوز عنهن .

                                                                                                                                            والثاني : ألا يكلفها مع الطاعة أن تحبك .

                                                                                                                                            وأما القسم الثالث ، من النشوز : فهو أن يشكل حال الزوجين فيه ، فلا يعلم أيهما هو الناشز على صاحبه فهو الذي ذكرنا فيه أن الحاكم يسكنهما في جوار أمينه ليراعيهما ، ويعلم الناشز منهما ، فيستوفي منه حق صاحبه أو ينهيه إلى الحاكم حتى يستوفيه .

                                                                                                                                            والقسم الرابع : أن يكون النشوز من كل واحد من الزوجين على الآخر ، فهو الذي أنزل الله تعالى فيه : وإن خفتم شقاق بينهما [ النساء : 35 ] الآية ، وسيأتي في الباب الآتي .

                                                                                                                                            [ ص: 597 ] فإذا تقررت هذه الجملة ، فهذا الباب مقصور على نشوز الزوجة ، ولا يخلو حالها من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يخاف نشوزها بأمارات دالة عليه ، من غير إظهار له ، مثل أن يكون عادتها أن تلبي دعوته وتسرع إجابته وتظهر كرامته ، فتعدل عن ذلك ؛ فلا تلبي له دعوة ، ولا تسرع له إجابة ، ولا تظهر له كرامة ، ولا تلقاه إلا معبسة ، ولا تجيبه إلا متبرمة ، لكنها مطيعة له في الفراش ، فهذا من أسباب النشوز ، وإن لم يكن نشوزا .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يظهر منها ابتداء النشوز الصريح من غير إضرار عليه ، ولا مداومة له .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن تصر على النشوز الصريح وتداومه .

                                                                                                                                            وإذا كان لها في النشوز ثلاثة أحوال ، فقد جعل الله تعالى عقوبتها عليه بثلاثة أحكام : وقد اختلف قول الشافعي في العقوبات الثلاث ، هل ترتب على الأحوال الثلاث أم لا ؟ على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد - : أن العقوبات مترتبات على أحوالها الثلاث ، ويكون الترتيب مضمنا في الآية ويكون معناها : إن خاف نشوزها وعظها ، فإن أبدت النشوز هجرها ، فإن أقامت على النشوز ضربها ، ويكون هذا الإضمار في ترتيبها كالمضمر في قوله تعالى : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف [ المائدة : 33 ] وإن معناها المضمر فيها : أن يقتلوا إن قتلوا ، أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال ولم يقتلوا ، كذلك آية النشوز ؛ لأن العقوبات المختلفة يجب أن تكون في ذنوب مختلفة ، ولا تكون كبائر العقوبات لصغائر الذنوب ، ولا صغائر العقوبات لكبائر الذنوب ، فأوجب اختلاف العقوبات أن تكون على اختلاف الذنوب .

                                                                                                                                            والقول الثاني - قاله في القديم ، وذكر احتماله في هذا الموضع - : أن العقوبات الثلاث مستحقة في حالين اختلف أصحابنا في كيفيتها على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما - وهو قول البصريين - : أنه إذا خاف نشوزها وعظها وهجرها ، فإذا أبدت النشوز ضربها ، وكذلك إذا أقامت عليه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني - وهو قول البغداديين - : أنه إذا خاف نشوزها وعظها ، فإذا أبدت النشوز هجرها وضربها ، وكذلك إذا أقامت عليه ، ووجه هذا القول أن العقوبة هي الضرب وما تقدمه من العظة والهجر إنذار والعقوبة تكون بالإقدام على الذنوب لا [ ص: 598 ] بمداومته ، ألا ترى أن سائر الحدود تجب بالإقدام على الذنوب لا بمداومتها ، فكذلك ضرب النشوز مستحق على إبدائه دون ملازمته ، فصار تحرير المذهب في ذلك أن له عند خوف النشوز أن يعظها ، وهل له أن يهجرها أم لا ؟ على وجهين ، وله عند إبداء النشوز أن يعظها ويهجرها ، وهل له أن يضربها أم لا ؟ على قولين : وله عند مقامها على النشوز أن يعظها ويهجرها ويضربها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية