الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 726 ] وتفاصيل الترجيح كثيرة ، فالضابط فيه : أنه متى اقترن بأحد الطرفين أمر نقلي ، أو اصطلاحي ، عام أو خاص ، أو قرينة عقلية ، أو لفظية ، أو حالية ، وأفاد ذلك زيادة ظن ، رجح به .

                وقد حصل بهذا بيان الرجحان من جهة القرائن ; ووجه الرجحان في أكثر هذه الترجيحات ظاهر ، فلهذا أهملنا ذكره اختصارا ، والله تعالى أعلم .

                التالي السابق


                قوله : " وتفاصيل الترجيح كثيرة " .

                اعلم أن الترجيحات التي ذكرتها في " المختصر " هي أكثر من ترجيحات " الروضة " نقلتها من " الحاصل " و " جدل ابن المني " ، وغيرهما ، ومع ذلك ، فثم تراجيح كثيرة لم نذكرها ذكرت في كتب الأصوليين ، وذلك ، لأن مثارات الظنون التي يحصل بها الرجحان والتراجيح كثيرة جدا ، فحصرها يبعد .

                وحيث الأمر كذلك ; " فالضابط " ، والقاعدة الكلية في الترجيح : " أنه متى اقترن بأحد الطرفين " يعني الدليلين المتعارضين " أمر نقلي " ، كآية ، أو خبر ، " أو اصطلاحي " كعرف ، أو عادة ; عاما كان ذلك الأمر أو خاصا ، " أو قرينة عقلية ، أو لفظية ، أو حالية ، وأفاد ذلك زيادة ظن ; رجح به " لما ذكرنا من أن رجحان الدليل هو الزيادة في قوته ، وظن إفادته المدلول ، وذلك أمر حقيقي لا يختلف في نفسه ، وإن اختلفت مداركه .

                قوله : " وقد حصل بهذا بيان الرجحان من جهة القرائن " . هذا اعتذار عن ترك التصريح بالقسم الثالث من أقسام الترجيح القياسي ، وهو الترجيح بالقرائن ، لأنا كنا ذكرنا أن الترجيح القياسي : إما من جهة أصل القياس ، أو علته ، أو قرينة عاضدة له ، وذكرنا القسمين الأولين ، وهما الترجيح من جهة الأصل والعلة ، وبقي الترجيح من جهة القرينة لم يصرح بذكره تفصيلا [ ص: 727 ] كالقسمين قبله ، لكنا أدرجناه إجمالا في القاعدة الكلية المذكورة للترجيح بقولنا : " أو قرينة عقلية ، أو لفظية ، أو حالية " .

                قوله : " ووجه الرجحان في أكثر هذه الترجيحات ظاهر ، فلهذا أهملنا ذكره اختصارا " .

                يعني أن الترجيحات المذكورة في " المختصر " وقع أكثرها غير موجه ، أي : لم يذكر وجه الترجيح فيه ، وذلك لوجهين :

                أحدهما : طلبا للاختصار ، إذ العادة في المختصرات ذكر الأحكام وترك التوجيهات ، وإلا لم يكن اختصارا .

                الثاني : أن وجه تلك الترجيحات بين ، فلم نر الإطالة بذكره .

                فإن قيل : فيلزمكم على هذا أن يكون توجيهكم لذلك في الشرح بتبيين البين ، وإيضاح الواضح ، وذلك تحصيل الحاصل .

                قلنا : لا يلزم ذلك ، لأنا قد ذكرنا في باب المجمل والمبين أن البيان له مراتب ، بعضها أعلى من بعض . فرتبة بيان الترجيحات المذكورة في الشرح أعلى من رتبة بيانها على المختصر على حسب تفاوت البسط في الشروحات بالنسبة إلى اختصار المشروحات .

                وقد نجز الكلام في " المختصر " ، فلنسرد الآن وجوها من الترجيحات ذكرت في كتب الأصول تكملة لما في " المختصر " . وربما وقع تكرار بين ما [ ص: 728 ] نذكره وما في " المختصر " فليغتفر ذلك ، وذلك قسمان :



                أحدهما : عري عن الأمثلة ، فمن الترجيح العائد إلى الراوي : أن يكون أذكر للرواية ، أو قد عمل بما روى ، أو يكون أقرب إلى المروي عنه حال سماعه ، أو يكون أعلم بالعربية ، أو أفطن ، أو أذكى ، أو أشهر في النسب لا لبس في اسمه ، أو تكون روايته عن حفظ لا عن كتاب ، ويحتمل ترجيح الكتاب ههنا ، لأنه أوثق وأضبط .

                ولهذا كان الإمام أحمد - رضي الله عنه - لا يروي إلا عن كتاب مع حفظه لما يرويه ، وأوصى بذلك أصحابه ، كيحيى بن معين ونحوه . أو يكون تحمله للرواية في حال بلوغه ، بخلاف من تحمل الرواية صغيرا ، وتقدم رواية من لم يختلط عقله في وقت على غيره .

                وحكى القرافي تقديم رواية المدني على غيره ، وهو نازع إلى مسألة إجماع المدينة ، وهو متجه .

                ومن الترجيح العائد إلى تزكية الراوي : أن يكون المزكي لأحد الراويين أكثر ، أو يكون تزكيته بصريح القول ، وتزكية الآخر بالرواية عنه ، أو العمل بروايته ، أو الحكم بشهادته ، فالأول أولى .



                ومن العائد إلى نفس الرواية : أن يكون أحد الخبرين من مراسيل التابعين ، والآخر من مراسيل من دونهم ، أو يكون أحدهما مصرحا فيه بلفظ : " حدثنا " ، أو " سمعت فلانا يقول " ، والآخر معنعنا ، لوقوع التدليس في العنعنة كما سبق ، أو يكون أحدهما معنعنا والآخر معلقا ، أو مكتفى فيه بالشهرة ، فالمعنعن راجح ، لأنه وإن احتمل الإرسال ، فالظاهر الاتصال ، وهو أحسن حالا مما لا سند له بكل حال ، أو يكون أحدهما معزوا إلى كتاب مشهور [ ص: 729 ] بالصحة ، والآخر إلى كتاب ليس كذلك ، أو يكون راوي أحد الخبرين سماعا من لفظ الشيخ بقراءته والآخر بالقراءة على الشيخ ، أو إجازة ، أو مناولة منه ، أو وجادة ، فالأول أرجح ، أو يكون أحد الخبرين أعلى إسنادا من الآخر ، فيكون أرجح لقلة مظان الغلط فيه ، أو تكون رواية أحدهما باللفظ ، والآخر بالمعنى ، أو أحدهما سماعا من غير حجاب ، كرواية القاسم بن محمد ، وعروة ، وعمرة عن عائشة - رضي الله عنها - لأنهم محارمها ، والآخر من وراء حجاب ، كرواية رجال كثيرين عنها ، لكونهم أجانب ، فالأول أولى فيهما .



                ومن العائد إلى المروي : أن يكون أحد الخبرين مسموعا من النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر عن كتاب ، أو إقرار منه ، أو أحد الخبرين قول ، والآخر فعل ، أو أحدهما خبر واحد فيما لا تعم به البلوى ، والآخر فيما تعم به . فالأول مقدم في الكل لقوة السماع والقول على غيرهما ، ووقع الخلاف فيما تعم به البلوى : هل يقبل فيه خبر الواحد أم لا ؟ ، ويقدم ما لم ينكره راوي الأصل على ما أنكره ، وما أنكره إنكار نسيان على ما أنكره إنكار تكذيب .



                ومن العائد إلى المتن : أن يكون أحدهما أمرا والآخر نهيا ، فالنهي راجح ، لأن محامله أقل ، إذ هو متردد بين التحريم والكراهة ، والأمر متردد بين الوجوب والندب والإباحة وغيرهما مما ذكر في موضعه ، ويقدم الحاظر على المبيح لذلك ، ويقدم ما مدلوله مبين على ما مدلوله مجمل باشتراك أو [ ص: 730 ] غيره ، وما مدلوله حقيقي على ما مدلوله مجازي ، والمتفق عليه في ذلك والأشهر فيه على غيره ، وما استغنى عن إضمار أو حذف على غيره ، وما دل بالوضع اللغوي والشرعي جميعا على ما دل بأحدهما ، وما دل من وجهين فأكثر على ما دل مما دون ذلك ، وما له مجاز واحد على ما له مجازات ، وما لزمه إضمار واحد على ما لزمه إضمارات ، وما أكدت دلالاته على غيره ، ودلالة المنطوق على المفهوم ، ومفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة ، وما دل على علة حكمه على ما لم يدل عليها ، وما سيق لبيان الحكم على ما لم يسق له ، بل استفيد من سياق كلامه ، لجواز أن المتكلم لا يريد ما في سياق الكلام ، وما فصل القصة ، واستوفى حكايتها على ما أجملها ، واقتصر على بعضها ، لأن التفصيل والاستيفاء يدل على زيادة إحاطة بها ، وما لا يشعر بنقص الصحابة - رضي الله عنهم - على غيره ، كحديث القهقهة المتضمن الإخبار بضحك الصحابة في صلاتهم من وقوع الضرير في البئر . والإنصاف أن هذا ضعيف من الترجيح ، لأن الصحابة مع كمالهم قد وقع من بعضهم الزنى وشرب الخمر وهو أعظم من ذلك ، لكن هذا على ضعفه محيل للرجحان . وما تضمن ذكر سبب الحكم على غيره ، لأن الأسباب يستعان بها على معرفة الأحكام ، ولهذا رجعنا في الأيمان إلى أسبابها وما هيجها ، والأفصح لفظا على غيره .

                ومن ترجيح الأقيسة مما يعود إلى أصل القياس : أن يكون أحد [ ص: 731 ] القياسين واجب التعليل ، أو متفقا على تعليله ، أو هو غير معدول به عن سنن القياس ، فيقدم على غيره . ومما يعود إلى علة حكم الأصل : أن يكون علة أحد القياسين وصفا حقيقيا والأخرى حكما شرعيا ، فيقدم الأول ، وهذا قد سبق الخلاف فيه بين القاضي وأبي الخطاب . ويقدم الوصف الوجودي على العدمي ، وقد سبق الخلاف فيه أيضا ، وما لا ترجع على أصلها بالإبطال على غيرها ، كما يقول الحنفي في قوله - عليه السلام - : في خمس من الإبل شاة المعقول من هذا إيجاب مالية الشاة لإغناء الفقراء ، فتجزئ قيمتها ، لأن علة المالية المستنبطة من النص المذكور ، عادت عليه بالإبطال ، فتقدم عليها العلة الأخرى ، وهي قصد الشارع التشريك بين الأغنياء والفقراء في جنس المال ، لأنها تقرر أصلها ولا تبطله .

                قلت : وهذا ضعيف ، لأن ما ذكره الحنفية من باب تنقيح المناط ، وهو محل اجتهاد . وأحسب أن خصومهم تمحلوا لهذا الوجه من الترجيح حتى يبطلوا به تأويلهم . ومذهبهم في دفع القيمة في الزكاة قوي جدا .

                ويقدم المناسب الضروري على غيره ، والحاجي على التحسيني ، وقياس العلة على قياس الدلالة ، والدلالة على الشبه ، وما علته واحدة على ذي العلتين للخلاف فيه كما سبق ، والعلة العامة المصلحة على الخاص منها .

                ومما يعود إلى الفرع : أن يكون أحد القياسين مشاركا لأصله في عين الحكم ، وعين العلة بخلاف الآخر ، أو يكون وجود العلة في أحدهما أظهر من [ ص: 732 ] وجودها في الآخر ، أو يكون النص قد دل على حكم أحدهما إجمالا لا تفصيلا ، بخلاف الآخر . هذا ما تيسر من وجوه الترجيح المكملة من القسم الأول منها .



                القسم الثاني : ذكر جملة من الترجيحات بأمثلتها أو بعضها ، ذكرها بعض الحنفية ، وأحسبه الجصاص صاحب " الفصول " وفيه أبواب :

                أحدها : في ترجيح النصوص بعضها على بعض ، فمن أمثلة ذلك : إذا تعارض نصان ، فهما إما عامان ، أو خاصان ، أو أحدهما عام والآخر خاص ، أو كل واحد منهما عام من وجه خاص من وجه ، فإن كانا عامين ، فإن أمكن الجمع بينهما ، تعين احترازا من تعطيلهما ، أو تعطيل أحدهما .

                مثاله : قوله - عليه السلام - : خير الشهداء من شهد قبل أن يستشهد مع ذمه لمن شهد قبل أن يستشهد ، فيحمل الأول على ما إذا لم يعلم [ ص: 733 ] صاحب الحق أن له شاهدا حفظا لحق المسلم . والثاني : على ما إذا علم فإن شهادة الشاهد حينئذ تكون فضولا .

                وإن لم يمكن الجمع بينهما ، أو كانا خاصين لا رجحان لأحدهما على الآخر ، توقف على المرجح الخارجي ، فإن لم يوجد ، وعلم التاريخ ، فالثاني ناسخ كما سبق ، وإن لم يعلم ، فهما كمجمل لا بيان له ، وإن كان أحدهما عاما ، والآخر خاصا ، حمل العام على الخاص ، كقوله - عليه السلام - : في الرقة ربع العشر مع قوله : ليس فيما دون خمس أواق صدقة يخص الأول بالثاني ، ويصير تقديره : في الرقة في خمس أواق فصاعدا ربع العشر ، وإن كان كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه ، فإن ترجحت حجة خصوص أحدهما ، خص به الآخر ، وإلا وقف على المرجح .

                ومثال ذلك : ما سبق من قوله - عليه السلام - : من نام عن صلاة أو نسيها ، فليصلها إذا ذكرها مع قوله : لا صلاة بعد الفجر ونحوه من الأوقات [ ص: 734 ] المنهي عنها ، فالأول عام في الوقت خاص في الصلاة الفائتة ، والثاني خاص في الوقت عام في الصلاة ، فخصصنا الثاني لما عرف من شدة اهتمام الشرع بالمكتوبات ، فصار كأنه قال : لا صلاة تطوع بعد الفجر .

                ومنها : إذا تعارض خاصان وأحدهما متقدم ، رجح المتأخر عليه ، لأن بتقدير ترجيح المتقدم يتعطل المتأخر بالكلية ، وبتقدير ترجيح المتأخر إنما يلزم تخصيص المتقدم ببعض الأزمان ، وهو أولى من التعطيل بالكلية .

                قلت : وهذا إنما يصح إذا كان المتقدم قد عمل به في وقت ما ، وإلا لزم من ترجيح أيهما كان تعطيل الآخر .

                ومنها : إذا تعارض نصان ، وأحدهما يعرف الحكم - موضوع لتعريفه - ، والثاني ينفي الحكم بإضمار شيء ، أو بتقييد مطلق ، فالأول راجح .

                قلت : حاصل هذا يرجع إلى ترجيح ما دل بنفسه على ما افتقر إلى إضمار أو تقييد ، لكن عبارته منحرفة عن إفادة ذلك إفادة تامة . ثم مثله بقوله - عليه السلام - : لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه مع قوله : لا عمل إلا بنية ، فالأول يقتضي قبول الصلاة بدون النية في الوضوء ، والثاني ينفي ذلك ; إما بإضمار الجواز ، أي : لا صلاة جائزة أو صحيحة إلا بنية ، أو بتقييد لفظ العمل بالواجب ، أي : لا عمل واجب إلا بنية .

                [ ص: 735 ] قلت : وهذا ضعيف ، وإنما هو من تحيلات الحنفية لتصحيح مذهبهم في المسألة ، وبيان ضعفه من وجهين :

                أحدهما : أن فهم قبول الصلاة بدون نية الوضوء من الحديث الأول ، هو من باب مفهوم الغاية ، والحنفية لا يقولون به .

                الوجه الثاني : أن قوله - عليه السلام - : لا عمل إلا بنية إن كنا نحن نضمر فيه الجوارح فهم يلزمهم إضمار الكمال بأن يقال : لا عمل كامل ولا صلاة كاملة ، ولم يضمروا ذلك ; لزم انتفاء ذات العمل والصلاة بدون النية ، وهو قولنا .

                وأما تقييد العمل بالواجب ، فهو من باب تخصيص العام ، وليس مما نحن فيه .

                ومنها : إذا تعارض المطعون فيه وغيره ; قدم الثاني ، كقوله - عليه السلام - لعلي - رضي الله عنه - : ليس عليك في الذهب شيء حتى يبلغ عشرين مثقالا ، ففيها نصف مثقال على قوله - عليه السلام - : لا زكاة في حلي النساء ، [ ص: 736 ] فالأول يقتضي وجوب الزكاة في الحلي ، والثاني ينفيه ، لكن طعن فيه الترمذي ، وقال : لم يثبت في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء .

                قلت : أما أصل القاعدة المذكورة في ترجيح ما لا طعن فيه على غيره ، فصحيح ،أما المثال المذكور فلا يصح لأنا سلمنا أن الحديث الثاني لا يصح ، لكن الأول إنما يدل على وجوب الزكاة في الحلي بعمومه ، ونحن نخصه في قياس الحلي في عدم وجوب الزكاة على عبيد الخدمة ، وثياب البذلة بجامع كونها متعلق الحاجة ، فلا تحتمل المواساة ، وتخصيص العموم بالقياس جائز باتفاق .

                ومنها : إذا تعارض عموم قوله - عليه الصلاة والسلام - وفعله ، ترجح الفعل عند أبي حنيفة ، والقول عند غيره كما سبق .

                مثاله : قوله - عليه السلام - : لا يقتل مؤمن بكافر مع ما روي عنه أنه أقاد مسلما بذمي .

                [ ص: 737 ] قلت : وحجة رجحان القول على الفعل أن له صيغة دالة بخلاف الفعل كما سبق ، وللقول بترجيح الفعل وجه أيضا .

                أما المثال المذكور ، فإن ما رووه أنه - عليه السلام - أقاد مسلما بذمي ، لا يثبت عند أئمة النقل ، وإنما رواه أبو حنيفة في " مسنده " ومن عساه وافقه ، ولو صح ، لاحتمل أن يكون ذلك المسلم ضم إلى قتل الذمي ما يوجب القتل من قتل مسلم أو ردة أو حرابة ، أو غير ذلك ، فوقع قتله بذلك في سياق قتل الذمي اتفاقا ، فظن أنه أقاده به . وإذا احتمل ما ذكرناه ، سقط الاستدلال به ، وبقي حديثنا نصا لا معارض له . ومنع الخلاف في المسألة أن قتل الذمي وقع واسطة بين قتل المسلم والحربي يتجاذبه الطرفان بالشبه ، فخرج فيها الخلاف ، ويلزمهم قتل المسلم بالحربي المستأمن ، لأن عهد الإسلام وذمته واحد في العصمة .

                ومنها : إذا تعارض المحرم والمبيح ، رجح المحرم ، كما سبق حكمه .

                مثاله : قوله - عز وجل - : وأن تجمعوا بين الأختين [ النساء : 23 ] مع قوله - عز وجل - : إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم [ المؤمنون : 6 ] ، إذ الأول يقتضي تحريم الجمع بين الأختين في الوطء مطلقا ، والثاني يقتضي إباحته بملك اليمين ، فهل يرجح المحرم احتياطا ، أو المبيح أخذا بالرخصة [ ص: 738 ] والتخفيف ؟ ولنا في تحريم الجمع بين الأختين في التسري قولان عن أحمد ، أصحهما المنع .

                ومنها : أن المبيح الخاص راجح على المحرم العام .

                قلت : هذا صحيح بناء على قاعدة تقديم الخاص ، كما سبق وذكر .

                مثاله : قوله - عز وجل - : لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم [ المائدة : 87 ] مع قوله - عليه السلام - : أيما إهاب دبغ ، فقد طهر كالخمر تخلل فتحل . قال : فالأول يقتضي حرمة تخليل الخمر ، لكون التخليل تحريما للعلاج الطيب ، والثاني يقتضي إحلاله .

                قلت : في هذا المثال خبط من جهة أن قوله : كالخمر تخلل فتحل ; ليس ثابتا في الخمر . ولو ثبت ; لكن لا نسلم أن التخليل تحريم للعلاج الطيب ، بل هما سببان عالجها بأحدهما ، كما يسخن الماء بالطاهرات تارة وبالنجاسات أخرى ، والمثال الجيد قوله - عليه السلام - : أحلت لنا ميتتان ودمان مع قوله - عز وجل - : حرمت عليكم الميتة والدم [ المائدة : 3 ] ، فالخبر مبيح خاص ، قدم على الآية التي هي محرم عام على قاعدة تقدم الخاص .

                ومنها : تقديم النص الذي لا مزاحم لمدلوله على ما له مزاحم لمدلوله ، وهو راجع إلى ترجيح النص على الظاهر أو المجمل .

                مثاله : قوله - عليه السلام - : طلاق الأمة اثنتان مع قوله - عليه السلام - : [ ص: 739 ] الطلاق بالرجال ، فالأول نص في أن طلاق الأمة تحت الحر طلقتان ، والثاني متردد بين نفي ذلك وعدمه .

                ومثاله : التردد من جهة أن قوله : " الطلاق " : مبتدأ ، " بالرجال " : جار ومجرور يتعلق بالخبر المحذوف ، فذلك المحذوف ما هو ؟ إن جعلنا تقديره : الطلاق معتبر بالرجال ; كان منافيا للأول ، ودل على أن طلاق الأمة تحت الحر ثلاث اعتبارا به ، وإن جعلنا تقديره : الطلاق قائم بالرجال ، كما تقول : الكلام بالمتكلم ، والسواد بالأسود ، أي : قائم ; لم يناف الأول ، لأن قيامه بالرجل لا ينافي اعتباره بالمرأة . والأظهر هو التقدير الأول ، لأن قيام الطلاق بالرجال أمر حقيقي ظاهر جلي ، واعتباره بهم حكم شرعي خفي ، فحمل الأمر [ ص: 740 ] على تعريف النبي - صلى الله عليه وسلم - له أولى . ويرجع حاصل المثال إلى تعارض نص وظاهرين .

                ومنها تقديم ما استقل بتعريف الحكم بنفسه ، على ما احتاج في تعريفه إلى واسطة أو أمر زائد ، ومثله بقوله - عليه السلام - لخولة بنت يسار في دم الحيض : إذا طهرت فاغسليه وصلي فيه مع قوله في حديث أسماء في دم الاستحاضة : حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء ، قال : فالأول يقتضي جواز الغسل بالخل ، والثاني ينفيه لتخصيصه بالماء ، فيكون الأول أولى لاستقلاله بالحكم دون زيادة .

                قلت : أصل القاعدة في الترجيح جيد ، لكن ليس ما ذكروه من أمثلته ، وإنما هو من باب المطلق والمقيد ، أو المجمل والمبين ، لأنه أطلق الغسل في الأول مجملا في آلته ، وقيد في الثاني بالماء ، وبين أنه الآلة فيه .

                وأما عدم الاستقلال ، فهو أن يحتاج أحد الدليلين إلى إضمار أو تقدير دون الآخر ، فيقدم ما لا يحتاج إلى ذلك . أما إذا كانت في أحدهما زيادة منصوص عليها ، فلا يقال : إنه غير مستقل بالدلالة ، إلا أن يراد بالإضافة إلى ما لم يذكر فيه ، فيكون عدم الاستقلال إضافيا ، لكن هذا خارج عن المشهور . نعم ، يرد على الاستدلال بالغسل بالماء من حديث أسماء أنه مفهوم لقب ، وهو ضعيف ، وأن تخصيص الماء بالذكر فيه إنما كان لغلبته ، والمفهوم إذا خرج مخرج الغالب لا يكون حجة كما سبق ، ونظائره في موضعه .

                [ ص: 741 ] ومنها : أنه قد تقرر أن الباقي على عمومه يقدم على ما خص ، وأن الأقل تخصيصا راجح على الأكثر تخصيصا ، وهما قاعدتان صحيحتان ، لكن ذكر لمثال الثانية قوله - عز وجل - : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ] مع قوله - عليه السلام - : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فلا يجمعن ماءه في رحم أختين قال : فالأول يقتضي حل نكاح الأخت المعتدة عن طلاق بائن ، والثاني ينفيه لتضمنه جمع الماء في رحم أختين .

                قلت : صواب العبارة أن يقال : حل نكاح أخت المعتدة ، لأن المعتدة لا يجوز نكاحها مطلقا بالإجماع ، لكن الكلام هنا في أخت زوجته المعتدة من طلاق بائن .

                وأما المثال ، فليس مطابقا لقاعدته ، وإنما هو من أمثلة اجتماع الخاص والعام ، إذ قوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ] يقتضي بعمومه جواز نكاح أخت المعتدة ، وقوله - عليه السلام - ينفي ذلك بخصوصه ، أو بعمومه الذي هو أخص من مضمون الآية ، فكان مقدما .

                ومنها : إذا تعارض خبر الواحد ، وأثر بعض مجتهدي الصحابة ، والخبر [ ص: 742 ] مما لا يخفى عليهم عادة ، ترجح الأثر .

                قلت : هذا قد يتجه بناء على أن قول الصحابي أو فعله مع سكوت الباقين عنه ، يكون إجماعا سكوتيا يترك له خبر الواحد ، لكن ذكر مثال القاعدة المذكورة قوله - عليه السلام - للرجل في حديث العسيف : على ابنك جلد مائة وتغريب عام مع قول عمر - رضي الله عنه - : لا أنفي بعد هذا أحدا أبدا ، وقول علي - رضي الله عنه - : كفى بالنفي فتنة . يعني فيقدم الأثر في عدم التغريب على الحديث في إثباته ، لأن الصحابي المجتهد لا يخالف الخبر إلا لدليل أرجح منه .

                قلت : والاعتراض على هذا المثال : أن النفي ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديثين صحيحين ; حديث العسيف وحديث عبادة : " خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا " الحديث . وما ذكرتموه عن عمر وعلي - رضي الله عنه - ليس في [ ص: 743 ] الصحة والشهرة كالحديثين المذكورين ، ولو ثبت صحتهما، لكن لا يمنع خفاء مثل ذلك عنهما ، فقد أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزية من مجوس هجر ، وخفي ذلك عن عمر وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم - حتى روى لهم ذلك عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وإذا احتمل ذلك ، لم يعارض به النص الصحيح بإيجاب التغريب .

                ومنها : إذا تعارض أثران عن صحابيين ، وأحدهما أفقه من الآخر ; قدم قول الأفقه ، ووجهه ظاهر .

                ومثاله قول علي - رضي الله عنه - في عده نواقض الوضوء : أو دسعة تملأ الفم ، مع ما روي عن أبو هريرة - رضي الله عنه - أنه أفتى بعدم انتقاض الطهارة بخروج النجاسة من غير السبيلين ، لأن الظن الحاصل بقول الأفقه أغلب ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب .



                الباب الثاني : في ترجيح بعض محامل الأثر على بعض :

                فمنها : إذا كان أحد احتمالي التصرف يعرف حكما يوافق العقل ، والآخر يعرف حكما ينافيه ، فحمله على الأول أولى ، كقوله - عليه السلام - : من مس [ ص: 744 ] ذكره فليتوضأ ; يحتمل أن يراد بالوضوء غسل الأعضاء الأربعة ، ويحتمل أن يراد به اليد ندبا ، إزالة لنفرة النفس التي أورثها مس الذكر في اليد ، فيترجح هذا الاحتمال ، لأنه يوافق العقل ، والأول ينافيه .

                قلت : القاعدة المذكورة يمكن تصحيحها بأن مقتضى العقل تصحيح دليل مستقر ، فيترجح الاحتمال الموافق له يكون جمعا بين دليلين ، وهو أولى من دليل واحد ، ثم يخرج في هذا ما يخرج في الخبر المقرر مع النافي .

                أما المثال الذي ذكره ، فالاعتراض على ما رجحه فيه بأن يقال : غسل الأعضاء الأربعة حقيقة شرعية ، فيجب حمل كلام الشارع عليها لما سبق في موضعه . سلمناه ; لكن قوله : " فليتوضأ " أمر ، فظاهره الوجوب ، فحمله على استحباب غسل اليد خلافه . سلمناه ; لكن لا نسلم حصول النفرة للنفس من مس الذكر ، كيف وأنه - عليه السلام - يقول في حديث طلق بن علي : إن هو إلا بضعة - أو مضغة - منك . سلمناه ; لكن لا نسلم أن غسل الأعضاء الأربعة ينافيه ، كيف وأن فيه طهارة من الأدران الدينية والبدنية . ووقوف المصلي بين يدي ربه كذلك هو أكمل أحواله ، وهو مناسب ظاهر في العقل ، سلمنا أنه ينافيه ، لكن ليس كل ما نافى العقل ، رجح غيره عليه ، وإلا لزم حمل الصلاة في قوله - عز وجل - : أقيموا الصلاة [ الأنعام : 72 ] على مسماها اللغوي ، [ ص: 745 ] وهو الدعاء ، لأنه أنسب في العقل من مسماها الشرعي ، لأنه حركة محضة لا يلحق الشرع منها نفع ، ولا يتوقف نفع المكلف عليها ، إذ كم من شخص حصل له الفوز الأخروي بغير عمل .

                ومنها : إذا تنازع النص محملان : أحدهما لا يستلزم التخصيص ، والآخر يستلزمه ، فالأول أولى .

                مثاله : قوله - سبحانه وتعالى - : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ] ، يقول المستدل : المراد بالمستطاب الحلال طبعا ، فيتناول جواز نكاح الأخت في عدة أختها ، ولا توطأ حتى تنقضي العدة ، فيقول الخصم : بل المراد بالمستطاب : الحلال ، فلا يناولها ، فيقال : هذا يوجب تخصيص العام ، والمحمل الأول يبقيه على عمومه ، فيكون أولى .

                قلت : وفي هذا نظر من وجهين :

                أحدهما : أن العموم مخصوص على التقديرين بذوات المحارم ، وحينئذ يرجع إلى ترجيح الأقل تخصيصا على الأكثر .

                الوجه الثاني : أن النزاع إنما هو في لفظ مشترك وهو " طاب " ، فعلى أي محمليه حمل ، كان عاما في مدلوله ، إن حمل على ما طاب طبعا ، فهو عام فيه ، وحينئذ النزاع بمعزل عن تخصيص العموم .

                ومنها : إذا كان أحد محملي النص يستلزم التعارض ، والآخر لا يستلزمه ، فالثاني أولى ، ومثل بقوله - عز وجل - : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم [ النساء : 25 ] ; حمله الشافعي [ ص: 746 ] وأحمد - رضي الله عنهما - على اشتراط عدم الطول لنكاح الأمة ، وأبو حنيفة على أنه أولى لا على أنه شرط ، لأن النصوص المقتضية لجواز النكاح مطلقا تعارضه ، فيكون حمله على الأولوية أولى لعدم استلزامه التعارض .

                قلت : هذا بناء منهم على أصل آخر ممنوع ، وهو أن المطلق لا يحمل على المقيد ، ونحن لما قلنا : يحمل المطلق على المقيد ، كانت آية الطول مقيدة للنصوص المطلقة .

                ومنها : تقديم الأقل إضمارا على الأكثر ، وقد سبق ، ومثل بقوله - عليه السلام - : الوضوء من كل دم سائل فإضمار الوجوب حتى يصير تقديره : يجب الوضوء من كل دم سائل ; أولى من إضمار نفيه بتقدير : لا يجب الوضوء من كل دم سائل .

                قلت : في هذا التمثيل نظر لوجهين :

                أحدهما : أن صدر الحديث : ليس الوضوء من القطرة والقطرتين ، إنما الوضوء من كل دم سائل . وهذا يمنع إضمار نفي الوجوب للتصريح بإثباته بصيغة الخبر .

                الوجه الثاني : أن الإضمار يجب أن يكون موافقا للكلام لا منافيا ، وقوله : " الوضوء من كل دم سائل " جملة إثباتية ، فإضمار نفي الوجوب ينافيها ، والذي ينبغي أن يكون النزاع فيه في هذا الحديث الوجوب والاستحباب ، فيكون التقدير : الوضوء واجب من كل دم سائل ، أو : مستحب من كل دم سائل .

                ومنها : تقديم أشهر الاحتمالين على الآخر .

                [ ص: 747 ] مثاله : أن يتمسك المستدل على أفضلية التزوج على النوافل بقوله - عليه الصلاة والسلام - : النكاح من سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني ، ولم يرد مثل هذه المبالغة في النوافل ، والمراد بالنكاح : العقد ، فقال الخصم : بل المراد به : الوطء ، فقال المستدل : لا شك أن النكاح مشترك بينهما لكنه في العقد أشهر ، فحمل اللفظ عليه أولى .

                قلت : النكاح هل هو حقيقة في العقد مجاز في الوطء ، أو بالعكس ، أو هو مشترك بينهما ؟ فيه ثلاثة أقوال ، وبالجملة في أيها كان حقيقة أو أشهر ، صح الترجيح به .

                ومنها : ترجيح ما أفاد حكما شرعيا على ما أفاد حكما حسيا .

                مثاله : قوله - عليه الصلاة والسلام - : في الرقة ربع العشر يحتمل أن المراد يجب في الرقة ربع العشر ، ويحتمل أن المراد بمعنى أنها تشتمل عليه ، فيرجح الأول على الثاني ، لأنه معلوم بالحس أن الرقة تقبل التجزئة حتى يكون لها ربع العشر .

                قلت : وهذا ينزع إلى تعارض التأسيس والتأكيد ، لأن حمله على وجوب ربع العشر أسس لنا حكما شرعيا لم نكن نعلمه ، وحمله على اشتمال الرقة عليه يكون تأكيدا لما علمناه بالحس .

                ومنها : إذا احتمل النص محملين ; أحدهما يعرف حكما مختلفا فيه ، [ ص: 748 ] والثاني يعرف حكما متفقا عليه ، فالأول أولى ، لأنه رافع لخلاف واقع ، فيكون أكثر فائدة ، وهو شبيه بتقديم التأسيس على التأكيد .

                ومنها : ترجيح أعم المحملين على أخصهما . ومثل بقوله - عز وجل - : حرمت عليكم الميتة والدم [ المائدة : 3 ] ، فحمل الدم على ما يعم دم الجنين الخارج من بطن أمه ميتا ، أولى من حمله على ما يخرجه من العموم ، لأن أعم المحملين أعم فائدة .

                قلت : هذا جيد عن أصحابنا ، وأصحاب الشافعي خصوا الجنين المذكور بقوله - عليه السلام - : ذكاة الجنين ذكاة أمه بالرفع ، وهو أشهر في الرواية ، وأوفق لرأي سيبويه في العربية من رواية النصب ، وهو يدل على أن ذكاة الأم مجزئة عن ذكاة الجنين .



                الباب الثالث : في ترجيح الأقيسة على النصوص .

                فمنها : إذا تعارض القياس والعام المخصوص ، فالترجيح مبني على ما سبق من أن العام المخصوص يبقى حجة وحقيقة في الباقي أم لا ؟ إن قلنا : يبقى حجة ; قدم على القياس ، وعلى مذهب عيسى بن أبان وأصحابه يقدم القياس .

                [ ص: 749 ] مثاله : أن قوله - عز وجل - : أحل لكم الطيبات [ المائدة : 5 ] عام مخصوص بالخمر ونحوها من الطيبات المحرمة وما بقي منه يتناول لحم الخيل ، فيكون حلالا ، وقياسها على البغال بجامع الصورة والولادة والاقتران بها في قوله - عز وجل - : والخيل والبغال والحمير لتركبوها [ النحل : 8 ] ; يقتضي تحريمها ، فأيها يقدم ؟ فيه الخلاف المتقدم .

                ومنها : إذا تعارض القياس النافي لوجوب الحد وخبر الواحد الموجب له ، اختلفوا في أيهما يقدم ؟

                مثاله : إذا وهب المالك العين المسروقة لسارقها بعد رفعه إلى الإمام ، فالقياس يقتضي عدم القطع ، كما لو وهبها له قبل الرفع إلى الإمام ، وخبر صفوان بن أمية يقتضي وجوب القطع ، لأنه وهب رداءه من سارقه ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فهلا قبل أن تأتيني به " ثم قطعه .

                قلت : والتحقيق أن مجرد القياس لا يكفي ، بل مع انضمام دليلين آخرين إليه ، وهما استصحاب حال عدم وجوب القطع ، وكون الحد مما يدرأ بالشبهة ، ومع ذلك يتخرج فيه أقوال ، ثالثها الوقف ، وأصحها وجوب الحد فرقا بين ما قبل الرفع إلى الإمام وبعده بأنه بعد الرفع قد تمكن فيه حق الله تعالى ، فلا يجوز إسقاطه كالمحاربين بعد القدرة عليهم ، بخلاف ما قبل ذلك .

                ومنها : إذا تعارض القياس الجلي ، وخبر الواحد الذي راويه ليس من فقهاء الصحابة المشهورين ، كخبر أبي هريرة - رضي الله عنه - في المصراة ; [ ص: 750 ] رجح أبو حنيفة القياس ، وأحمد في آخرين الخبر .

                ومأخذ الخلاف : أن الظن الحاصل من القياس ههنا أغلب ، أو الحاصل من الخبر ؟ وهو محل اجتهاد ونظر ، وقد سبق .

                ومنها : إذا تعارض القياس وخبر الواحد فيما تعم به البلوى ، ففيه الخلاف السابق .

                مثاله : أن الخمر إذا خللت اقتضى القياس حلها كما لو تخللت بنفسها . وقوله - عليه السلام - : كلوا ما فسد من الخمر ولا تأكلوا ما فسدتموه يقتضي حرمتها .

                قلت : وجه الخلاف سبق في الأخبار ، وهو محل اجتهاد ، أما هذا الخبر ، فلا يثبت ، وما يروى عنه - عليه السلام - في عكسه : خير خلكم خل خمركم ولو صح الخبران ، لكان الأول مقدما على الثاني ، لأنه أخص منه وعلى القياس عندنا لما سبق .

                وقد انتهى ما تهيأ إلحاقه بالمختصر من التراجيح ، وقد تضمن ذلك فوائد كثيرة جمة يليق بالفاضل أن لا يهملها ، وكذلك الشرح جميعه من أوله إلى آخره يتضمن فوائد ومباحث لا توجد إلا فيه ، تنبهت عليها بالفكرة والنظر في كلام الفضلاء ، وأنا ذاكر لك إن شاء الله - عز وجل - مادة هذا الشرح ، لتكون [ ص: 751 ] على بصيرة مما تجد فيه وثقة ، بحيث إن أردت الوقوف على أصل شيء منه ، ومن أين نقل ، عرفت مادته .

                فاعلم أن مادته ، وهي الكتب التي جمع منها هي :

                " الروضة " للشيخ أبي محمد التي هي أصل " المختصر " .

                وأصل الروضة " وهو " المستصفى " .

                و " منتهى السول " للشيخ سيف الدين الآمدي .

                و " التنقيح " وشرحه للشيخ شهاب الدين القرافي .

                ووقع في أوائله مراجعة لأوائل " المحصول " للإمام فخر الدين .

                وأوائل " العدة " للقاضي أبي يعلى .

                وفي أواخره خصوصا القياس ، والأسئلة الواردة عليه مطالعة لشرح " جدل الشريف المراغي " للنيلي ، و " لجدل " الشيخ سيف الدين الآمدي ، و " المقترح " للبروي ، و " نهاية الجدل " و " لباب القياس " للشيخ رشيد الدين الحواري .

                ووقع فيه فوائد من كتب أخر كثيرة ، لكن لم يقع من كل منها ما يستحق أن يذكر لأجله ، وذكرها يطول . فما كان في هذا الشرح مما يستغرب ، ولم يوجد في الكتب المسماة ، فهو إما في الكتب التي لم تسم ، أو مما قلته أنا . وقد افتتحت أكثر ذلك ب " قلت " تمييزا للمقول من المنقول . وقد أوضحت ذلك كله بما اتضح لي من حججه مع اجتهادي في تحقيق معانيه وتلخيصها ، وإيضاح مباني ألفاظه وتخليصها ، وتمثيل ما أمكن ذكر مثاله [ ص: 752 ] تسهيلا لفهمه على الناظر . ولم أعز إلى أحد من العلماء شيئا إلا بعد تحقيقه بمشاهدته في موضعه ، أو سؤال من أثق به ، إلا ما قد ربما يندر ; مما الاحتراز عنه متعذر . وأنا أعوذ بالله من غمز الغامز ، ولمز اللامز ، وعيب العايب للغافل عما فيه من المعايب ، الظان بجهله أو تجاهله عصمة الإنسان من الخطأ والنسيان ، وإنما الإنسان للوهم كالغرض للسهم . ومن نظر في كلام الفضلاء من المتأخرين والقدماء ، وما وقع في آثارهم العلمية من الخلل والنقص ، وما أبداه بعضهم من كلام بعض ، مهد العذر لمن بعدهم في الخطأ والزلل ، وإنما يفعل ذلك من في فضله كمل ، لا جاهل يهمل في تحصيل الفضائل ، ويشري نفسه لنقص الأفاضل . ثم إني أسأل الله الكريم أن يجعل سعيي مقربا إليه ، ومزدلفا لديه ، وذخرا في المعاد ، وشاهدا مزكيا يوم يقوم الأشهاد ، وأن لا يجعلني كالفتيلة تحرق نفسها ، وتضيء لغيرها ، أو من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا بمنه وكرمه ، إنه هو الجواد الكريم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلواته على سيدنا محمد وآله أجمعين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .




                الخدمات العلمية