الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 27 ] وقيل : لم يظهر خلاف في صحة التمسك بالإجماع حتى خالف النظام ، والإجماع قبله حجة عليه ، إلا أنه تمسك بإجماع سكوتي ضعيف على قطعية الإجماع .

                ومعنى كون الإجماع حجة وجوب العمل به مقدما على باقي الأدلة ، لا بمعنى الجازم الذي لا يحتمل النقيض في نفس الأمر ، وإلا لما اختلف في تكفير منكر حكمه .

                التالي السابق


                قوله : " وقيل : لم يظهر خلاف في صحة التمسك بالإجماع ، حتى خالف النظام ، والإجماع قبله حجة عليه " .

                هذا دليل استدل به بعض الأصوليين ، على أن الإجماع حجة على بطلان قول النظام في نفي ذلك .

                وتقريره : أن علماء الأمة ، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، لم يزالوا يتمسكون على صحة ثبوت الأحكام بالإجماع ، ولم يظهر أحد منهم خلافا في التمسك به ، حتى ظهر النظام فخالف فيه ، ويستحيل في مطرد العادة اتفاق الأمة في الأعصار المتكررة ، مع اختلاف فطرهم ، وتفاوت مذاهبهم في الرد والقبول ، على التمسك بما لا دليل على صحة التمسك به ، [ ص: 28 ] فذلك قاطع في حكم العادة ، بأنهم ظفروا بقاطع ، دل على صحة التمسك بالإجماع ، ويكون إجماعهم على ذلك قبل النظام حجة عليه ، فلا يكون خلافه معتبرا ، لأنه على خلاف القاطع .

                قوله : " إلا أنه " إلى آخره . هذا تمشية لمذهب النظام بتوهين ما احتج به عليه ، من الإجماع قبله .

                وتقريره : أن ما ذكره من الاحتجاج عليه متجه بالجملة بالإجماع قبله " إلا أنه تمسك بإجماع سكوتي ضعيف على قطعية الإجماع " أي : على كونه حجة قاطعة ، وذلك لأن قولهم : ما زالوا يتمسكون بالإجماع ، ولم يظهر أحد منهم خلافا ; هو معنى الإجماع السكوتي ، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

                والإجماع السكوتي حجة ضعيفة ، فكيف يحتج بها على كون الإجماع حجة قاطعة ، وهو من أعظم المطالب الدينية ، وهل ذلك إلا إثبات القوي بالضعيف ، كما سبق في إثبات الإجماع القاطع بالظواهر .

                واحتج الآمدي من جهة المعقول : بأن الخلق الكثير من أهل كل عصر إذا اتفقوا على حكم ، وجزموا به ، وبلغ عددهم حد التواتر ، استحال في العادة أن لا يتنبه أحد منهم على الخطأ فيما حكموا به في ذلك ، وذلك يدل بحكم العادة على إصابتهم ، وهو المطلوب .

                [ ص: 29 ] ثم قال : لكن هذه الطريقة تختص بما إذا بلغ المجمعون حد التواتر ، بخلاف ما إذا نقصوا عنه .

                قلت : هذه الطريقة هي الطريقة السابقة في قولنا : وقيل : لم يظهر خلاف حتى خالف النظام ، ولا معنى لاشتراط بلوغ عدد التواتر ، بل الخلق الكثير عادة إذا اتفقوا على أمر ، قضت العادة بصوابهم فيه . أما اشتراط التواتر ، فغير متجه ، لأن عدده غير محصور كما سبق ، ولا يمكن أن يقال : المراد بعدد التواتر العدد الذي إذا أخبر ، حصل خبره العلم ، لما سبق من أن العلم حاصل بخلق الله تعالى له ، عند إخبار المخبرين ، لا بطريق التولد عن الإخبار .

                وحينئذ لا يعلم العدد الذي لو أخبر ، لأفاد خبره العلم ما هو .

                قوله : " ومعنى كون الإجماع حجة " إلى آخره .

                لما سبق في صدر المسألة أن الإجماع حجة قاطعة ، وكان القاطع يطلق تارة على ما لا يحتمل النقيض ، كقولنا : الواحد نصف الاثنين ، ويمتنع اجتماع الضدين ، وتارة يطلق على ما يجب امتثال موجبه قطعا ، ولا يمتنع مخالفته شرعا ; أحببت أن أبين ما المراد من كون الإجماع حجة قاطعة ، لأنه موضع إجمال واحتمال .

                ومعنى كونه حجة قاطعة : أن العمل يجب " به مقدما على باقي الأدلة " : الكتاب والسنة والقياس ، فيقدم الإجماع على جميعها بحيث إذا [ ص: 30 ] أجمعت الأمة على نفي أو إثبات في مسألة ، ودل نص الكتاب ، أو السنة أو القياس ، أو جميع هذه الثلاثة على خلاف ذلك كله ، كان العمل بما أجمع عليه دون ما دل عليه باقي الأدلة ، لدلالة الإجماع على نص قاطع ناسخ لتلك الأدلة المخالفة له ، أو معارض لها راجح عليها ، وليس المراد بكون الإجماع حجة قاطعة القطع العقلي ، وهو الجزم " الذي لا يحتمل النقيض في نفس الأمر " لأنه لو كان قطعيا بهذا التفسير ، لما اختلف العلماء في تكفير من أنكر حكما شرعيا ، لأن القواطع العقلية لا يختلف فيها ، ولا في تكفير من أنكر أحكامها المعتبرة شرعا ، كما لم يختلفوا في تكفير من قال بقدم العالم ، أو بنفي الصانع ، أو توحيده ، أو قدرته ، أو علمه ، أو بنفي النبوات ، ودلالة المعجزات عليها ، ونحو ذلك ، لكن سيأتي الخلاف في تكفير منكر الحكم الجماعي فدل ذلك على أن المراد بكونه قاطعا ، هو القطع الشرعي لا العقلي ، على ما بيناه ، والله أعلم .




                الخدمات العلمية