قال ابن إسحاق: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه أبو بصير; عتبة بن أسيد بن جارية الثقفي، وكان ممن حبس بمكة، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب فيه أزهر بن عبد عوف بن الحارث بن زهرة ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثا رجلا من بني عامر بن لؤي، ومعه مولى لهم، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الأزهر ، والأخنس. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بصير! إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، فانطلق إلى قومك. قال: يا رسول الله! أتردني إلى المشركين يفتوني في ديني؟ قال: يا أبا بصير! انطلق فإن الله سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا. فانطلق معهما، حتى إذا كان بذي الحليفة جلس إلى جدار، وجلس معه صاحباه، فقال أبو بصير: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ فقال: نعم، انظر إليه إن شئت. فاستله أبو بصير ثم علاه حتى قتله، وخرج المولى سريعا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم طالعا، قال: إن هذا الرجل قد رأى فزعا، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ويحك ما لك؟ قال: قتل صاحبكم صاحبي، فوالله ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحا السيف، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! وفت ذمتك، وأدى الله عنك، أسلمتني بيد القوم، وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه، أو يعبث بي. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويل أمة محش حرب ، لو كان معه رجال!". ثم خرج أبو بصير حتى نزل العيص من ناحية ذي المروة على ساحل البحر، بطريق قريش التي كانوا يأخذون إلى الشام، وبلغ المسلمين الذين [ ص: 179 ] كانوا احتبسوا بمكة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: "ويل أمه محش حرب، لو كان معه رجال!" فخرجوا إلى أبي بصير بالعيص، فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلا، فكانوا قد ضيقوا على قريش، لا يظفرون بأحد منهم إلا قتلوه، ولا تمر بهم عير إلا اقتطعوها، حتى كتبت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله بأرحامها إلا آواهم، فلا حاجة لهم بهم، فآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدموا عليه المدينة.
وذكر ابن عقبة هذا الخبر أطول من هذا، وسمي الرجل الذي بعثته قريش في طلب أبي بصير: جحيش بن جابر من بني منقذ. قال: وكان ذا جلد ورأي في أنفس المشركين، وجعل لهما الأخنس في طلب أبي بصير جعلا، فقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفع أبا بصير إليهما، فخرجا به، حتى إذا كانا بذي الحليفة، سل جحيش سيفه ثم هزه، فقال: لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوما إلى الليل، وذكر نحو ما تقدم، وفيه: فجاء أبو بصير بسلبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال خمسه يا رسول الله. قال: إني إذا خمسته لم أف بالذي عاهدتهم عليه، ولكن شأنك بسلب صاحبك، واذهب حيث شئت. فخرج أبو بصير، معه خمسة نفر كانوا قدموا معه مسلمين من مكة، حتى إذا كانوا بين العيص وذي المروة من أرض جهينة، وانفلت أبو جندل بن سهيل في سبعين راكبا أسلموا وهاجروا، فلحقوا بأبي بصير، وكرهوا أن يقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة المشركين، وكرهوا الثواء بين ظهري قومهم، فنزلوا مع أبي بصير في منزل كريه إلى قريش، فقطعوا به مادتهم من طريق الشام، وأبو بصير يصلي لأصحابه، فلما قدم عليه أبو جندل كان هو يؤمهم، واجتمع إلى ناس من أبي جندل غفار وأسلم وجهينة وطوائف من الناس حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل وهم مسلمون، لا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها. وذكر مرور أبي العاص بن الربيع بهم وقصته. قلت: وقد تقدم أن أبا العاص أخذ في سرية إلى زيد بن حارثة العيص. قال: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ، أبي جندل وأبي بصير أن يقدما عليه، ومن معهما من المسلمين أن يلحقوا ببلادهم وأهليهم، فقدم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما وأبو بصير يموت، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده يقرأه، فدفنه أبو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدا، وقدم أبو [ ص: 180 ] جندل على رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ناس من أصحابه، ورجع سائرهم إلى أهليهم.
وقال أبو جندل فيما حكاه الزبير:
أبلغ قريشا عن أبي جندل أنا بذي المروة فالساحل في مشعر تخفق إيمانهم
بالبيض فيها والقنا الذابل يأبون أن تبقى لهم رفقة
من بعد إسلامهم الواصل أو يجعل الله لهم مخرجا
والحق لا يغلب بالباطل فيسلم المرء بإسلامه
أو يقتل المرء ولم يأتل
[ ص: 181 ]