ذكر الأجوبة عما رمي به:
قلت: أما ما رمي به من التدليس والقدر والتشيع فلا يوجب رد روايته ولا يوقع فيها كبير وهن. أما التدليس فمنه القادح في العدالة وغيره ولا يحمل ما وقع ها هنا من مطلق التدليس على التدليس المقيد بالقادح في العدالة. وكذلك القدر والتشيع لا يقتضي الرد إلا بضميمة أخرى ولم نجدها ها هنا.
وأما قول أنه ترك حديثه ولم يعد إليه، فقد علل ذلك بأنه سمعه يحدث أحاديث في الصفات فنفر منه، وليس في ذلك كبير أمر، فقد ترخص قوم من السلف في رواية المشكل من ذلك وما يحتاج إلى تأويله، لا سيما إذا تضمن الحديث حكما أو أمرا آخر، وقد تكون هذه الأحاديث من هذا القبيل. مكي بن إبراهيم
وأما الخبر عن أنه حدث أهل يزيد بن هارون المدينة عن قوم فلما حدثهم عنه أمسكوا، فليس فيه ذكر ما يقتضي الإمساك، وإذا لم يذكر لم يبق إلا أن يحول الظن فيه، وليس لنا أن نعارض عدالة مقبولة بما قد نظنه جرحا.
وأما ترك حديثه; فقد ذكرنا السبب في ذلك وتكذيبه إياه: روايته عن يحيى القطان ، عن وهيب بن خالد مالك ، عن فهو ومن فوقه في هذا الإسناد تبع هشام، لهشام، وليس ببعيد من أن يكون ذلك هو المنفر لأهل المدينة عنه في الخبر السابق عن وقد تقدم الجواب عن قول يزيد بن هارون، هاشم فيه عن ، أحمد بن حنبل بما فيه مغنى. وعلي بن المديني
وأما قول أنه يحدث عن المجهولين أحاديث باطلة; فلو لم ينقل توثيقه وتعديله لتردد الأمر في التهمة بها بينه وبين من نقلها عنه، وأما مع التوثيق والتعديل فالحمل فيها على المجهولين المشار إليهم لا عليه، وأما الطعن على العالم بروايته عن المجهولين فغريب، [ ص: 64 ] قد حكي ذلك عن ابن نمير وغيره، وأكثر ما فيه التفرقة بين بعض حديثه وبعض، فيرد ما رواه عن المجهولين ويقبل ما حمله على المعروفين. وقد روينا عن سفيان الثوري أبي عيسى الترمذي: سمعت يقول: سمعت محمد بن بشار يقول: ألا تعجبون من عبد الرحمن بن مهدي لقد تركت سفيان بن عيينة: لجابر الجعفي - لما حكى عنه - أكثر من ألف حديث. ثم هو يحدث عنه؟! قال وقد حدث الترمذي: ، عن شعبة جابر الجعفي ، وإبراهيم الهجري ، ومحمد بن عبيد الله العرزمي وغير واحد ممن يضعف في الحديث.
وأما قول أحمد يحدث عن جماعة بالحديث الواحد ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا. فقد تتحد ألفاظ الجماعة وإن تعددت أشخاصهم، وعلى تقدير أن لا يتحد اللفظ فقد يتحد المعنى. روينا عن قال: إذا حدثتكم على المعنى فحسبكم. وروينا عن واثلة بن الأسقع قال: كنت أسمع الحديث من عشرة، اللفظ مختلف والمعنى واحد. وقد تقدم من كلام محمد بن سيرين أن حديثه ليتبين فيه الصدق يروي مرة حدثني ابن المديني ومرة ذكر أبو الزناد الفصل، إلى آخره: ما يصلح لمعارضة هذا الكلام. واختصاص أبو الزناد ، ابن المديني بسفيان معلوم كما علم اختصاص سفيان ، بمحمد بن إسحاق. وأما قوله: كان يشتهي الحديث فيأخذ كتب الناس فيضعها في كتبه. فلا يتم الجرح بذلك حتى ينفي أن تكون مسموعة له، ويثبت أن يكون حدث بها. ثم ينظر بعد ذلك في كيفية الإخبار، فإن كان بألفاظ لا تقتضي السماع تصريحا فحكمه حكم المدلسين، ولا يحسن الكلام معه إلا بعد النظر في مدلول تلك الألفاظ. وإن كان يروي ذلك عنهم مصرحا بالسماع ولم يسمع، فهذا كذب صراح واختلاق محض لا يحسن الحمل عليه إلا إذا لم نجد للكلام مخرجا غيره. وأما قوله: لا يبالي عمن يحكي عن الكلبي وغيره. فهو أيضا إشارة إلى الطعن بالرواية عن الضعفاء; لمحل من التضعيف. والراوي عن الضعفاء لا [ ص: 65 ] يخلو حاله من أحد أمرين: إما أن يصرح باسم الضعيف أو يدلسه; فإن صرح به فليس فيه كبير أمر، يروي عن شخص ولم يعلم حاله، أو علم وصرح به ليبرأ من العهدة. وإن دلسه: فإما أن يكون عالما بضعفه أو لا، فإن لم يعلم فالأمر في ذلك قريب، وإن علم به وقصد بتدليس الضعيف وتغييره وإخفائه ترويج الخبر حتى يظن أنه من أخبار أهل الصدق وليس كذلك، فهذه جرحة من فاعلها وكبيرة من مرتكبها، وليس في أخبار ابن الكلبي أحمد ، عن ما يقتضي روايته عن الضعيف وتدليسه إياه مع العلم بضعفه حتى ينبني على ذلك قدح أصلا. وجواب ثان: ابن إسحاق مشهور بسعة العلم وكثرة الحفظ، فقد يميز من حديث محمد بن إسحاق الكلبي وغيره مما يجري مجراه: ما يقبل مما يرد; فيكتب ما يرضاه ويترك ما لا يرضاه. وقد قال قال لنا يعلى بن عبيد: اتقوا سفيان الثوري: الكلبي. فقيل له: فإنك تروي عنه؟ قال: أنا أعرف صدقه من كذبه. ثم غالب ما يروى عن الكلبي أنساب وأخبار من أحوال الناس وأيام العرب وسيرهم وما يجري مجرى ذلك مما سمح كثير من الناس في حمله عمن لا تحمل عنه الأحكام، وممن حكي عنه الترخص في ذلك الإمام أحمد، وممن حكى عنه التسوية في ذلك بين الأحكام وغيرها وفي ذلك بحث ليس هذا موضعه. يحيى بن معين،