أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته. قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله. قال:
فما اسمي إذن، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم والممات مماتكم. قال: فأقبلوا إليه يبكون، ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله ورسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن الله ورسوله يعذرانكم ويصدقانكم. رواه وفدت وفود إلى عن الإمام أبو داود أحمد بن حنبل.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم بدخول مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا أنه قد عهد في نفر سماهم بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، منهم: عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري ، وعبد العزى بن خطل ، ، وعكرمة بن أبي جهل والحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن قصي ، ومقيس بن صبابة ، وهبار بن الأسود، وقينتا ابن خطل، كانتا تغنيان ابن خطل بهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسارة مولاة لبني عبد المطلب.
فأما ابن أبي سرح فكان ممن أسلم قبل ذلك وهاجر، وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد مشركا، وصار إلى قريش، فلما كان يوم الفتح فر إلى عثمان - وكان أخاه من الرضاعة، أرضعت أمه عثمان - فغيبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما اطمأن الناس، فاستأمنه له، فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا، ثم قال: نعم. فلما [ ص: 237 ] انصرف عثمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حوله: ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه. فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي يا رسول الله؟ فقال: إن النبي لا ينبغي أن يكون له خائنة أعين.
قلت: وكان بعد ذلك ممن حسن إسلامه، ولم يظهر منه شيء ينكر عليه، وهو آخر النجباء العقلاء الكرماء من قريش، وكان فارس بني عامر بن لؤي، المقدم فيهم، وولاه ثم عمر بن الخطاب عثمان رضي الله عنهم.
وأما ابن خطل فإنما أمر بقتله أنه كان مسلما فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا، وبعث معه رجلا من الأنصار، وكان معه مولى له يخدمه، وكان مسلما، فنزل منزلا وأمر المولى أن يذبح له تيسا، فيصنع له طعاما، فنام، فاستيقظ ابن خطل ولم يصنع له شيئا، فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا. وكانت له قينتان: فرتنا وقريبة، وكانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقتلهما معه، فقتله سعيد بن حريث المخزومي ، وأبو برزة الأسلمي.
وروينا عن ، حدثنا ابن جميع محمد بن أحمد الخولاني بمكة، حدثنا أحمد بن رشدين، قال: حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ، عن ابن لهيعة عقيل ، عن ابن شهاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم; أنه دخل أنس بن مالك، مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر ، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة. فقال: اقتلوه. قال عن ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرما. ابن شهاب:
وأما ففر إلى عكرمة بن أبي جهل، اليمن، فاتبعته امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام فردته، فأسلم وحسن إسلامه، وكان يعد من فضلاء الصحابة. [ ص: 238 ] وأما الحويرث بن نقيذ فكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقتله يوم الفتح. علي بن أبي طالب
وأما مقيس بن صبابة فكان قد أتى النبي صلى الله عليه وسلم مسلما، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله بأخيه هشام بن صبابة بعد أن أخذ الدية، وكان الأنصاري قتل أخاه مسلما خطأ في غزوة ذي قرد وهو يرى أنه من العدو. وقد تقدم ذلك في غزوة ذي قرد وأبيات مقيس في ذلك، ثم لحق بمكة مرتدا، فقتله يوم الفتح نميلة بن عبد الله الليثي وهو ابن عمه.
قال ومن سنته صلى الله عليه وسلم أنه قال: أبو عمر: "لا أعفي أحدا قتل بعد أخذ الدية". هذا من المسلمين. وأما مقيس فارتد أيضا.
وأما هبار بن الأسود: فهو الذي عرض في سفهاء لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قريش حين بعث بها أبو العاص زوجها إلى المدينة، فأهوى إليها هبار هذا ونخس بها، فسقطت على صخرة، فألقت ذا بطنها، واهراقت الدماء، فلم يزل بها مرضها ذلك حتى ماتت سنة ثمان، هبارا فأحرقوه بالنار، ثم قال: اقتلوه، فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار. فلم يوجد يوم الفتح ثم أسلم بعد الفتح وحسن إسلامه وصحب النبي صلى الله عليه وسلم. فقال عليه الصلاة والسلام: إن وجدتم
وذكر الزبير أنه لما أسلم وقدم مهاجرا جعلوا يسبونه، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سب من سبك. فانتهوا عنه.
وأما قينتا ابن خطل فرتنا وقريبة فقتلت إحداهما واستؤمن رسول الله صلى الله عليه وسلم للأخرى، فأمنها، فعاشت مدة، ثم ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
[ ص: 239 ] وأما سارة فاستؤمن لها أيضا فأمنها عليه الصلاة والسلام فعاشت إلى أن أوطأها رجل فرسا بالأبطح في زمن عمر فماتت.
رجلان، قيل: هما: بأم هانئ بنت أبي طالب الحارث بن هشام ، وزهير بن أبي أمية، وقيل: أحدهما جعدة بن هبيرة. فأجارتهما، فأراد علي قتلهما، فدخلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي الضحى، فذكرت ذلك له، فأمضى جوارها، وقال: . قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت واستجار
وأسلمت يوم الفتح، وهي شقيقة أم هانئ ، علي بن أبي طالب وعقيل ، وجعفر ، وطالب، أمهم قيل: اسمها فاطمة بنت أسد، فاختة، وقيل: هند. ومن حجة من قال إن اسمها هند قول زوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي حين فر يوم الفتح ولم يسلم ولحق بنجران ومات على شركه في أبيات أولها:
أشاقتك هند أم جفاك سؤالها كذاك النوى أسبابها وانفتالها وقد أرقت في رأس حصن ممرد
بنجران يسري بعد نوم خيالها وعاذلة هبت علي تلومني
وتعذلني بالليل ضل ضلالها لئن كنت قد تابعت دين محمد
وعطفت الأرحام منك حبالها فكوني على أعلى سحيق بهضبة
ممنعة لا يستطاع قلالها فإني من قوم إذا جد جدهم
على أي حال أصبح اليوم حالها وإني لأحمي من وراء عشيرتي
إذا كثرت تحت العوالي مجالها وطارت بأيدي القوم بيض كأنها
مخاريق ولدان يطيش ظلالها وإن كلام المرء في غير كنهه
لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها