وروينا عن أبي الربيع بن سالم، قال: وذكر بإسناد له إلى الواقدي نفيسة بنت منية أخت يعلى بن منية، قال وقد رويناه أيضا من طريق أبي علي بن السكن، وحديث أحدهما داخل في حديث الآخر مع تقارب اللفظ، وربما زاد أحدهما الشيء اليسير على [ ص: 116 ] الآخر، وكلاهما ينمي إلى نفيسة قالت: لما بمكة اسم إلا الأمين، لما تكامل فيه من خصال الخير، قال بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة وليس له أبو طالب: يا ابن أخي! أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا سنون منكرة، وليس لنا مادة ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، تبعث رجالا من قومك في عيرانها فيتجرون لها في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها فوضعت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضلتك على غيرك; لما يبلغها عنك من طهارتك، وإن كنت لأكره أن تأتي وخديجة بنت خويلد الشام وأخاف عليك من يهود، ولكن لا نجد من ذلك بدا، وكانت امرأة تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة، وتبعث بها إلى خديجة بنت خويلد الشام، فتكون عيرها كعامة عير قريش، وكانت تستأجر الرجال وتدفع إليهم المال مضاربة، وكانت قريش قوما تجارا، ومن لم يكن تاجرا من قريش فليس عندهم بشيء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلعلها ترسل إلي في ذلك. فقال أبو طالب: إني أخاف أن تولي غيرك، فتطلب أمرا مدبرا، فافترقا.
وبلغ ما كان من محاورة عمه له، وقبل ذلك ما بلغها من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، فقالت: ما علمت أنه يريد هذا، ثم أرسلت إليه فقالت: إنه دعاني إلى البعثة إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك. ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقي خديجة أبا طالب فذكر له ذلك، فقال: إن هذا لرزق ساقه الله إليك. فخرج مع غلامها ميسرة حتى قدم الشام، وجعل عمومته يوصون به أهل العير حتى قدم الشام، بصرى في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب يقال له نسطورا، فاطلع الراهب إلى ميسرة وكان يعرفه، فقال: يا ميسرة! من هذا الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال ميسرة: رجل من قريش من أهل الحرم. فقال له الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي. ثم قال له: في عينيه حمرة؟ قال ميسرة: نعم لا تفارقه. قال الراهب: هو هو، وهو آخر الأنبياء، ويا ليت أني أدركه حين يؤمر بالخروج. فوعى ذلك فنزلا في سوق ميسرة.
[ ص: 117 ] ثم حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق بصرى فباع سلعته التي خرج بها، واشترى فكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة، فقال الرجل: احلف باللات والعزى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حلفت بهما قط. فقال الرجل: القول قولك. ثم قال لميسرة - وخلا به - يا ميسرة! هذا نبي، والذي نفسي بيده، وإنه لهو تجده أحبارنا منعوتا في كتبهم. فوعى ذلك ميسرة. ثم انصرف أهل العير جميعا، وكان ميسرة يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو على بعيره، قال: وكان الله عز وجل قد ألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة من ميسرة، فكان كأنه عبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رجعوا وكانوا بمر الظهران تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة، في علية لها، معها نساء فيهن وخديجة نفيسة بنت منية، فرأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل وهو راكب على بعيره وملكان يظلان عليه، فأرته نساءها فعجبن لذلك، ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فخبرها بما ربحوا، فسرت بذلك، فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت، فقال لها ميسرة: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام، وأخبرها بقول الراهب نسطورا، وقول الآخر الذي خالفه في البيع.
قالوا: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجارتها، فربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت له ما سمت له، فلما استقر عندها هذا، وكانت امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط نساء قريش نسبا، وأعظمهن شرفا، وأكثرهن مالا، وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو يقدر عليه، فعرضت عليه نفسها، فقالت له فيما يزعمون: رضي الله عنه، حتى دخل على حمزة بن عبد المطلب خويلد بن أسد، فخطبها إليه، فتزوجها. يا ابن عم! إني قد رغبت فيك لقرابتك وسطتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك وصدق حديثك، فلما قالت ذلك له، ذكر ذلك لأعمامه فخرج معه عمه