الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            الغرب ودراسة الآخر (أفريقيا أنموذجًا)

            علي القريشي

            خامسا: في علم النفس

            في الدراسات النفسية الغربية التي تتناول سيكولوجية (الآخر) تظهر النزعة العرقية واضحة أكثر من ظهورها في أي حقل معرفي آخر. فمنذ « فرانسيس غالتون » الذي تأثر بدارون واشتهر بكتابه «علم النفس» جرى الحديث عن الأعراق الأدنى، وكان السود ضمنهم



            [1] ، وحين أصدر « كاروتز » في العام 1929م كتابه المعنون «سيكولوجية الأفريقي السوية والمرضية» ذكر أن الإنسان الأفريقي قلما يستعمل الفصين الجبهين من دماغه، ويمكن أن ترد جميع خصائص الأمراض العقلية إلى الفص الجبهي كله من الدماغ، وبناء على ذلك فإن الأفريقي السوي يعادل الأوربي الذي استئصل جزء من دماغه؟! [ ص: 61 ]

            وهذه ليست فكرة جديدة، حيث سبق للدكتور «بورد» في مؤتمر أطباء الأمراض العقلية العصبية، الناطقين بالفرنسية، الذي عقد في بروكسل في العام 1935م، أن عرض نظرية فحواها أن السكان الأصليين لشمال أفريقيا تتدهور لديهم أنشطة المراكز اللحائية العليا، لذلك هـم يتصفون بنظره بالبدائية.. ثم طور « بورد » وتلميذه « سوتر » أستاذ الطب العقلي في جامعة الجزائر هـذه النظرية، ونشرا أبحاثا في العام 1939م خلاصتها أن بدائية الأفريقي لا ترد إلى الأسلوب التربوي الخاص، بل إلى العامل العضوي، الذي يكمن في بنية المراكز الدماغية، أو في التنظيم الطبقي لهذه المراكز، فالميل نحو القتل الذي يريانه عند الجزائري مثلا يرجعانه إلى فقدان اللحاء الدماغي، أو سيطرة الدماغ المتوسط، وعلى هـذا الأساس تتشكل السلوكية الأفريقية التي تتشابه بنظرهما مع سلوكية الحيوانات الفقرية الدنيا. وإجمالا، فالوظائف اللحائية، إن وجدت، فهي ضعيفة جدا وليست مندمجة في حركة حياة هـذا الكائن





            [2] .

            وبهذا التأسيس يتبين أمامنا الربط بين العلم والنزعة العرقية التي تنطوي على التحقير، والتي سنرى كيف أنها تمنح المشروع الاستعماري مبررات قيامه. وهذا ما تنبه إليه « أحمد سيكوتوري » حين انتقد مقولة البدائية التي خلعها « ليفي بريل » على الشعوب غير الأوربية، وقال: «ليست [ ص: 62 ] صدفة أن يبدأ الاستعمار الغربي في الوقت الذي سادت فيه نظريات: «العقلية البدائية» أو «العقلية ما قبل المنطقية»



            [3] .

            أما التحليل الذي يربط بين اللون والذكاء فيكشف هـو الآخر عن ذلك التحيز على نحو أكثر فجاجة. فبعض الدراسات تزعم بأن الشعوب البيضاء تتمتع بذكاء أسمى فيما تقع الشعوب السوداء في أدنى السلم. وقد تأصل هـذا النظر عند علماء السلالات ك « فيكتور كورتيه دوليل » و « غوبينيو » و « روبري نوكس »، وتبناه علماء النفس كمرجعية لتحليلاتهم السيكولوجية، حتى أنهم زعموا بأن سواد البشرة يعكس بطبيعته عن حالة من الخلل العضوي والنفسي، وما مفهوم «الإنسان القاصر» الذي عبر عنه « مودمنوني » بمصطلح «مركب التبعية» - وهو في معرض تحليله لسيكولوجية المستعمر- إلا ترجمة لهذه التبعية، والنزعات العرقية التبخيسية. حتى أن هـذا الأخير ذهب إلى أن الاستسلام لحالة التبعية إنما هـو حالة طبيعية في التكوين الذاتي للمستعمر، وادعى بأن هـذه «الحقيقة» قد استخلصها من دراسة ميدانية أجراها في جزيرة مدغشقر



            [4] .

            وعلى فرض صحة هـذا الادعاء إلا أنه ينطوي على تعميم غير علمي لا يمكن قبوله، إذ كيف يستمرىء المرء الذل والتبعية دون أن تكون ثمة قوة قاهرة أو مناخ سلطوي ينتج تلكم «القابلية للاستعمار»؟! [ ص: 63 ]

            إن هـذه الظاهرة لا تنسجم مع الفطرة السوية في حالة الوضع الطبيعي، وبالتالي فهي لا تمثل السلوك الطبيعي، ولا حتى حالة السمة الثابتة، إن وجدت.

            لقد لوحظ بأن النظريات التي تصف السود بالتخلف والقصور قد تم توظيفها في معهد علم النفس بجنوب أفريقيا ، بواسطة عدد من الباحثين النفسيين، الذين كانوا يهتمون بكل تحليل وتنظير يخدم توجهات النظام العنصري، الذي كان قائما هـناك



            [5] .

            ومن الغريب أن تجد بعض الأفكار العنصرية صداها على نحو ما عند بعض العلماء والمفكرين الأفارقة أنفسهم، كما أسلفنا.. ففي تحليلات « سنغور » مثلا، نقرأ عن الأفريقي قوله: إنه «كائن ذو أحاسيس مشرعة، متفتحة على حركة الطبيعة، قابلة لكل صنوف الإغراء، دون واسطة تصفي وترشح» مما يعني أن الزنجي السنغوري يسلم قياده إلى حركة الطبيعة وقوانينها الفيزيائية والفسيولوجية بلا تمحيص أو اختيار، ولا عقل يمارس التحليل والنقد، حتى حين يقر بوجود تبادلية بين الذات والموضوع عند ذاك الأفريقي يشبهها بتبادلية الشجر والحجر مع البيئة المحيطة.. والأدهى حين يضيف واصفا زنجيه بأنه «إنسان مفكر بلا شك، لكنه أولا صور وألوان، وهو من قبل ذلك أريج ونظام وإيقاعات»، وهي عبارة - برغم شاعريتها - تقدم الحس على التفكير، وتقود إلى القول: بأن «العقل هـيليني أما العاطفة فزنجية»، بمعنى أن العقل الأوربي الموروث تحليلي ورياضي تطبيقي، فيما العقل الزنجي تخميني وعاطفي، وبالتالي لا يعنى بمشاكل الواقع وقضاياه الملموسة. [ ص: 64 ]

            والحقيقة أن غلاة الآيديولوجية الاستعمارية لن يجدوا - كما يقول د. عبدالله أحمد بشير بولا - ما يضيفونه إلى هـذه الفكرة التنميطية. و « سنغور » ذلك الصوت الذي لا يمل التغني بأمجاد «الحضارة الزنجية الأفريكية» ينهل بملء شدقيه من مفتريات «علم السلالات الاستعماري»، وإذا كان له من إضافة فهي إضفاء المصداقية على مقالات هـذا العلم



            [6] المزعوم.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية