الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            أولا: في الأنثروبولوجيا

            تتحكم العرقية العنصرية وفكرة المركزية الأوربية في الاتجاهات التقليدية والحديثة لعلم الإنسان أو الأنثروبولوجيا بشكل واضح، فالباحث الغربي في هـذا الحقل سواء كان يؤمن بالاتجاه «التطوري» أو «الوظيفي»



            [1] ، ينطلق من مسلمة أن نموذجه الفكري والثقافي هـو المرجع القياسي، وهو منطلق يدعو إلى التوقف، ومراجعة الكثير من الكتابات الوصفية والتأويلية، ويوجب التساؤل حول الاستخدامات المضللة للكثير من المصطلحات والمفاهيم التي ترد في هـذا الخصوص، مثل «مجتمع متقدم ومجتمع متخلف» و «ثقافة [ ص: 41 ] منفتحة وثقافة متخلفة» و «حضاري وبربري» و «تحديثي وتقليدي»



            [2] إلى غير هـا من المفاهيم والمصطلحات



            [3] التي تفتقر إلى صحة الوصف أو دقته، نظرا لانطلاقها من منهجية تقوم على إسقاط الرؤية الأوربية والخبرة الحضارية الخاصة - بما تحمله من قيم وعلاقات - على (الآخر) وعلى أوضاعه غير المطابقة.

            بل إنه منذ البداية، حين عكف العلماء الأنثروبولوجيون على دراسة «الأنساق الاجتماعية» ووظائفها في الإطار الأفريقي تحت عنوان «الثقافات البدائية» كان يحكمهم هـاجس دعم التصورات الاستعمارية



            [4] ، لذلك كانت دراساتهم تستهدف تبخيس الثقافات الأخرى، وقصر ميزة التفوق على ثقافة «الأنا» الأوربية وما ينبثق عنها من نظم، كما كان تفسيرهم للظواهر يتم طبقا لمفاهيم حياتهم الخاصة، حتى أن الباحث منهم لم يكن يرى في علاقات القربى والروابط الأسرية والعائلية الممتدة إلا دليلا على التخلف، مثلما لا يرى في «الجماعية» إلا رمزا للمجتمع التقليدي، لا لشيء إلا لأنه يؤمن بقيم معاكسة



            [5] ، ناهيك عن أن الكثير من التحليلات تحتمها النظرة المادية التي تتغافل القيم والأبعاد الروحية، التي تشكل أبرز مقومات الحياة الإنسانية [ ص: 42 ] في أفريقيا المسلمة.

            من جهة أخرى، فإن بعض الدراسات الغربية لا تكف عن استخدام مفهوم «الأصالة» بشكل يبدو وكأنه يعمل على تكريس حالة التأخر، حيث لا يصاغ هـذا المفهوم إلا بالمعنى الذي يستبعد إمكانات التطور والتجديد، وبما يوحي بأن التأخر حالة طبيعية لا يمكن التخلص منها في الحياة الأفريقية. بل تذهب بعض تلك الدراسات إلى أبعد من ذلك، كما هـو عند « كانز دفاج » عميد المدرسة الفرنسية للأنثروبولوجيا الفيزيائية، حين يقرر بأن الوظائف الحيوية عند السود تحل محل التصورات النبيلة للعقل، كما أن الأسود أبيض لكن جسمه اكتسب الشكل النهائي للنوع فيما توقف ذكاؤه برمته في الطريق



            [6] .

            لقد أوقعت مثل هـذه التصورات العنصرية الكثير في ارتباكات نظرية فادحة، إلى حد أن بعضهم كان يقول: بأن الثقافة الأفريقية عاجزة عن إنتاج المعاصرة



            [7] ، والغريب أن يكون بين هـؤلاء مثقفون وعلماء أفارقة مثل « ليوبولد سنغور » الذي يصرح بأن «الزنجي فلاح من لحمه ودمه» و «العقل الهيليني (أي الإغريقي) تحليلي بقرينة الاندفاع، بينما العاطفة زنجية بقرينة المشاركة» وكأن « سنغور » وأمثاله لم يفطنوا إلى الضرر العلمي الذي يتأتى من اعتبار الأصالة مجرد ذلك الناجز الثابت



            [8] الذي لا يتحمل الاجتهاد والتطوير.

            والحقيقة أنه منذ بدايات الممارسة التطبيقية لعلم الأنثروبولوجيا في [ ص: 43 ] أفريقيا كانت تتضح العرقية ونزعة التمركز والمقاصد الاستعمارية، سواء عبر اختيار موضوعات البحث، أو ما يتبع من مسالك تجزيئية في التناول والتحليل، فقد كان تركيز كثير من تلك الممارسات على الجوانب السلبية، كالخرافة والسحر والتجزئة وسواها، دون الاهتمام بالجوانب الإيجابية، علما بأن بعض ما يعد سلبيا هـو في ظل مقاربة أخرى ليس كذلك، أو على الأقل ليس بالسلبية التي يصور فيها.

            من جهة أخري، فإن الكثير من التنظيرات التي تبدو إيجابية سنتلمس بعد إمعان تحيزها. ففي مفهوم «التثاقف» الذي تطرحه الدراسات الكلاسيكية يشار غالبا إلى عمليات «الاحتكاك الثقافي» وهو ما كانت تبشر به «المدرسة الانتشارية» بصفته سبيلا لانتقال الأفكار والممارسات والنظم من ثقافة أعلى إلى ثقافة أدنى، وهذا في حقيقته تبشير بالمشروع الاستعماري الذي يطرح نفسه كنظرية عامة للتثقيف والتغيير. أما النظريات التطورية الأخرى ذات المنزع الخطي فهي تجعل تجربة «المركز» وثقافته أنموذجا، على الآخرين أن يحتذونه، دونما مراعاة لما يختص به الآخرون



            [9] من تمايز واختلاف.

            إن مجتمعا كالمجتمع الأفريقي المسلم، الذي له ثقافته الخاصة المغايرة، ليس بوسعه القبول بالتغيير الثقافي والاجتماعي وفقا لثقافة المركز الأجنبي، وأن إضفاء الصفة العلمية على مفاهيم «الانتشار الثقافي» و «الاحتكاك الثقافي» و «التثاقف» و «التغير الاجتماعي» لا يعبر في حقيقة الأمر إلا عن [ ص: 44 ] تغطية مهذبة لواقع الهيمنة ومقاصد الاحتواء



            [10] ناهيك عن أن ذلك ينطوي على عدم الاعتراف بماهية المجتمعات الأخرى وأنماطها الخاصة. والمنهجية الغربية إذا ما تسامحت بقبول التمايز فبحدوده الغرائبية أو الخرافية، وعلى النحو الذي لا يتصادم مع هـيمنة المركز ولا يعوق مشاريعه الاحتوائية.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية