الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            الغرب ودراسة الآخر (أفريقيا أنموذجًا)

            علي القريشي

            المنهج المقترح لتدريس العلوم الإنسانية والاجتماعية

            في الجامعات الإسلامية الإفريقية في ضوء إسلامية المعرفة

            كان لانفراد العلوم الإنسانية والاجتماعية - الغربية النشأة والتأسيس - انعكاساته الخطيرة على الصعيد التعليمي والتربوي، حيث أمست المواد والمقررات التي تحكم أغلب مناهج التعليم في المدارس والجامعات، في مختلف [ ص: 142 ] بلدان العالم الإسلامي، مبنية على هـذه العلوم، الأمر الذي هـيأ لظاهرة التبعية المعرفية والعلمية والتعليمية، والتي كان من نتائجها تغريب العقل المسلم، وتزييف معاني العلم والتربية، والتجهيل بحقيقتهما المركبة، ولكن حين انتبه بعض علماء المسلمين ومربيهم إلى هـذه الوضعية، منذ الثلث الثاني من القرن العشرين، ظهرت محاولات لتأصيل العلوم الإنسانية والاجتماعية، وبدأ التفكير بإعادة النظر في وضع المناهج التعليمية، والدعوة إلى إعادة بنائها وفقا لما يتم إنجازه في حقل التأصيل المذكور.

            وفي هـذه الدراسة، المعنية بإعداد منهج تدريسي للعلوم الإنسانية والاجتماعية في الجامعة الإسلامية الأفريقية، واستنادا إلى البديل العلمي، الذي سبق أن تعرضنا لأسسه ومقوماته، فإن معالجتنا للمنهج التعليمي المذكور ستقتصر على عنصرين من عناصره هـما: «الأهداف» بمستوياتها العامة، و «المحتوى» وكيفية إعداده وصياغته، مع الإشارة إلى بعض المقررات والموضوعات التي نقترحها في سياقه، دون التطرق إلى «طرق التدريس» و «تقويم» المنهج، اللذين لهما آفاق أخرى من الدراسة



            [1] .

            1- الأهداف العامة

            يميز التربويون بين نوعين من الأهداف التعليمية:

            الأول: أهداف مباشرة، تتصل بمقرر دراسي (course) بعينه.

            الثاني: أهداف عامة، تتصل بحقل من حقول العلوم والمعارف



            [2] . [ ص: 143 ]

            وفي ظل الوظيفة التربوية للجامعة الإسلامية في أفريقيا ، يمكن تبني جملة من الأهداف العامة لتدريس العلوم الإنسانية والاجتماعية، والتي يمكن تحديدها بما يلي:

            - إعلام الطالب «بالمسلمات» و «الثوابت» المقررة في القرآن والسنة، أو المستنبطة عنهما، وتكوين الوعي المنهجي، الذي يجعل من تلك «المسلمات» و «الثوابت» منطلقات أساسية لأي نشاط بحثي، مع تحديد الغايات في ضوئها.

            - التعريف بالحقائق الإنسانية الاجتماعية «المطلقة» التي لا يقيدها زمان أو مكان، بصرف النظر عمن توصل إليها، مع التعريف بالحقائق الإنسانية والاجتماعية «النسبية» التي يدخل الزمان أو المكان أو الاثنان معا في تحديدها، وبخاصة ما يتصل منها بالإنسان والمجتمع في أفريقيا المسلمة، مع ضرورة التثقف بالقوانين والسنن الاجتماعية التي ورد ذكرها في القرآن والسنة الصحيحة، وتحفيز الفكر لاستكشاف المزيد من تلك القوانين والسنن.

            - التعريف بما توصل إليه بعض العلماء أو المفكرين أو الباحثين المسلمين من مبادىء أو نظريات علمية عامة أو فرعية، أو ما صيغ على أيديهم من مفاهيم في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية، وإمكانية الاسترشاد بما هـو صحيح منها أو دقيق، مع التشجيع على البحث في ثنايا التراث، التي تتضمن أبعادا إنسانية واجتماعية، وتحقيق مخطوطاته ذات الصلة بذلك.

            - تنمية الوعي النقدي بشأن العلوم الإنسانية والاجتماعية الغربية، واستيعاب الرؤية المنهجية الإسلامية، واتخاذها محكا للتمييز بين ما يعد آيديولوجيا أو حقيقة مطلقة أو نسبية ضمن تلك العلوم. [ ص: 144 ]

            - الحث على حصر الموضوعات والظواهر الخاصة في أفريقيا المسلمة، والاهتمام بقضايا الإنسان الأفريقي، وبيئته المحلية، في إطار العلوم الإنسانية والاجتماعية.

            - تكوين الروح العلمية، من خلال تربية القدرة على الملاحظة الدقيقة، واختبار الفروض، للتوصل إلى العلاقات الارتباطية بين المتغيرات والظواهر، مع تنمية صفات الأمانة في النقل والبحث والتقصي، وترسيخ الموضوعية في التحليل والحكم، وصولا إلى تخريج علماء يمتلكون المتانة العلمية والدقة في البحث والمعالجة.

            - إكساب المعرفة النفسية، والتربوية، والاجتماعية، والسياسية، والتنموية، والدولية، والإعلامية السائدة، على نحو نقدي، تحصينا للعقل الأفريقي المسلم من عمليات الغزو الثقافي والتشويهات المعرفية، بخاصة تلك التي تدور حول الإنسان والمجتمع في العالم الإسلامي، وفي أفريقيا المسلمة على وجه التحديد، وتوفير القدرة على تفكيكها وإرجاعها إلى عوامل تحيزها.

            - تقديم البديل التربوي، فكرا وسياسات واتجاهات، بما يساعد على تكوين الفرد والجماعة بالصورة التي يرتأيها الإسلام، وتقتضيها ضرورات الواقع ومقتضيات التغير.

            - إكساب القدرة على إدراك العلاقة بين التعليم والتغريب، في البلدان الأفريقية، وبيان مدى خطورة المناهج التعليمية ذات المضامين المعرفية الغربية والعلمانية ، مع التوعية بخطر هـيمنة اللغات الأوربية على حساب اللغة العربية واللغات القومية. [ ص: 145 ]

            - التوعية بالعلاقة الوثيقة بين اللغة العربية والإسلام، والتشجيع على تعلم هـذه اللغة بصفتها لغة القرآن والحديث وغالب التراث الإسلامي.

            - التعريف بالاتجاهات والقوى الإسلامية التي عرفتها القارة الأفريقية، والاتجاهات السائدة لدى الشعوب الأفريقية، والقيم والتصورات والاتجاهات الإسلامية (النموذجية) ، مع تنمية الإدراك بأهمية الإلمام بالآداب والفنون في أفريقيا ، وتقويمها من منظور جمالي إسلامي.

            - التثقيف بتاريخ الدعوة الإسلامية في أفريقيا، والتعريف بشخصياتها، وما تركته الحضارة الإسلامية في القارة من قيم ونظم وآثار، والتزويد بما يفند محاولات التشويه لهذا التاريخ وتلكم القارة، مع كشف أوجه الزيف في الدراسات الغربية والعلمانية والعنصرية المتصلة بهذا الموضوع، وبيان جوانب المغالطة والافتئات التي تنطوي عليها.

            - تأكيد قيمة العلاقات بين المسلمين داخل القارة، وبين هـؤلاء والمسلمين خارجها، مع تجلية العناصر الإيجابية في هـذه العلاقات، دون تجاوز الظواهر السلبية، التي يمكن تناولها كظاهرة الرقيق وبعض الصور السيئة للممارسات العرقية أو السلطوية، وتقويم كل ذلك من منطلق التوعية بين ما يمثل الإسلام النموذجي وما يمثل الإدراك الخاطىء أو الممارسات المنحرفة.

            - إثارة الشعور بتقدير الدور التاريخي الذي قامت وتقوم به بعض الزوايا والخلاوي والكتاتيب في التعليم الإسلامي ونشر اللغة العربية، فضلا عن دورها في الوقوف بوجه الاستعمار والغزو الثقافي والتبشير.

            - التعريف بالبنى الاجتماعية لأفريقيا المسلمة، وتحليل عناصر التغير والتغيير التي تتعرض لها، وصولا إلى معرفة مدى انسجامها واستجابتها - في [ ص: 146 ] ثباتها وتغيرها - مع تعاليم الإسلام أو بعدها عنها، فضلا عن ضرورة إثارة الانتباه للسمات الإيجابية وتشجيع الاتجاهات الداعمة لها من جهة، وإثارة الانتباه للسمات السلبية وتشجيع الاتجاهات الداعية لتغييرها من جهة أخرى.

            - منح القدرة على تحليل سيكولوجية التخلف والتقدم في المجتمعات الأفريقية، وفقا لمعايير تجمع بين الواقعية الموضوعية والرؤية الإسلامية، بعيدا عن الرؤية المركزية الأوربية.

            - تعميق التصور التنموي الإسلامي، والتثقيف بمقوماته المعنوية والمادية والعلمية، والتنبيه إلى ضرورة المشاركة في أي مشروع يسعى نحو التنمية المستقلة ويتخذ الاعتماد على الذات منهجا وسلوكا.

            - إكساب المعرفة بالنظريات والنظم الإسلامية المختلفة، ثم مقارنتها بالنظريات والنظم الأخرى، واستنباط بعض الأفكار والمفاهيم من واقع التجارب الإسلامية السابقة، وبخاصة الأفريقية منها، وإمكانية الاستفادة من هـذه التجارب في بناء النظرية السياسية الإسلامية المعاصرة.

            - تعميق الوعي السياسي على الصعد المحلية والإقليمية والدولية، وذلك من خلال منظور إسلامي.

            - إكساب المعرفة بتاريخ الظاهرة الاستعمارية، وأهدافها، ووسائلها، وانعكاساتها، وأثارها السلبية على الفرد والمجتمع في أفريقيا المسلمة، مع تعميق الإحساس بخطر الاستهداف الدولي للقارة، وانعكاسات ذلك سلبا على واقع الإسلام والمسلمين فيها.

            - الإحاطة علما بالحركة التبشيرية في العالم، وفي أفريقيا على وجه الخصوص، والتعريف بأساليبها ومستجداتها على الساحة الأفريقية، مع بيان الصيغ المناسبة للتعامل معها. [ ص: 147 ]

            - تعميق الوعي الإعلامي، الذي يكسب الحصانة ضد التشويه وعمليات التزييف والاختراق، التي يقوم بها خصوم الإسلام في أفريقيا والعالم.

            - التوعية بحقائق وأبعاد الغزو الثقافي في أفريقيا المسلمة، من حيث نشأته، وتطوره، وأهدافه، ووسائله، وآثاره، وسبل مواجهته.

            - التنبيه لظاهرة العولمة في أبعادها الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبيان انعكاساتها، والدعوة إلى البحث عن الصيغ المناسبة للتعامل معها ومواجهتها.

            - تعميق قيمة الحوار بين الحضارات والشعوب، في إطار الوعي بالمعادلات الموضوعية للحوار، وإدراك واقع العلاقة مع (الآخر) والبحث في إمكانية التلاقي وإجهاض مقولات الصراع.

            2 - المحتوى: ضوابط إعداده ومقترح ببعض المقررات والمواد

            إن المشكلة الجوهرية التي تواجه الجامعة الإسلامية الأفريقية، عند شروعها في وضع المنهاج الدراسي، هـو الكيفية التي يتم فيها إعداد المحتوى والمقررات، وحيث إن علوم الإنسان والمجتمع التي تغذي هـذا الإعداد هـي، كما عرفنا، نتاج العقل الغربي والتربية الغربية، فإنه يقتضي ومنذ البدء إيلاء إعادة بناء هـذه العلوم، أسلمة وتكييفا وتوطينا، الاهتمام الكافي، وعند هـذا المفصل يظهر التلازم بين إشكالية إعداد «محتوى المناهج التعليمية» وإشكالية «تأسيس العلوم الإنسانية والاجتماعية».

            إن التأسيس المطلوب لهذه العلوم لا يتم بالتوفيق بين النصوص الدينية ومفردات هـذه العلوم، ولا بمجرد استعراض إسهامات العلماء المسلمين فيها، بل بتأصيلها من منطلق المنهج المعرفي الإسلامي، ومرتكزاته، التي تحدثنا عنها سابقا. [ ص: 148 ]

            وبالنظر لكون المعرفة الإنسانية والاجتماعية، وفقا للمنهج المعرفي الإسلامي، مازالت قيد الإنجاز، فإنه لا يسع الجامعة الإسلامية، وهي في صدد إعداد محتوى منهاجها، إلا الاستعانة بالمصادر التالية:-

            1- ما تمت بلورته من قبل العلماء والمفكرين والباحثين المسلمين من مسلمات وثوابت إسلامية، وحقائق علمية موضوعية، مطلقة أو نسبية.

            2- ما تم إنتاجه في حقل العلوم الإنسانية والاجتماعية ممن ينطوي على حقائق علمية ثبت إطلاقها، مع الاستئناس بالحقائق النسبية الخاصة بأطر اجتماعية أو حضارية أخرى، ذلك لأغراض المقارنة والتمييز.

            3- البحوث والدراسات الخاصة بأفريقيا المسلمة، والتي تم إنجازها من قبل باحثين يعتمدون المنهج المعرفي الإسلامي.

            4- استقصاء وتفحص البحوث والدراسات الخاصة بأفريقيا المسلمة، والتي تم إنجازها من قبل أفارقة وأوربيون وعرب وهنود وغيرهم، سواء على مستوى الجامعات والمعاهد





            [3] أو ضمن مراكز البحوث

            [4] أو على مستوى [ ص: 149 ] البحوث الفردية والحرة، إضافة إلى استقصاء وتفحص ما ورد في الدوريات وأعمال المؤتمرات، من معطيات معرفية، وإعادة تصنيفها، بغية تحديدها والكشف عن خصائصها الجوهرية





            [5] تمهيدا لتقويمها والنظر في إمكانية الاستفادة منها أو الاستئناس بها عند إعداد المحتوى التدريسي، دون تجاوز ما سبق أن تعرضنا له من تحفظات أساسية بشأن النواحي المنهجية.

            5- في إطار الوظيفة العلمية للجامعة الإسلامية في أفريقيا ، وفي ضوء مشروع إسلامية المعرفة، يمكن لكوادر الجامعة أن تبادر إلى حصر المشاكل والظواهر والقضايا الإنسانية والاجتماعية، وإجراء الدراسات بشأنها، مع القيام بالاستطلاعات والاستقصاءات، والعمل على جمع البيانات، ووضع الإحصاءات، بهدف توفير أكبر نسبة من المعلومات الموثقة والحقائق الدقيقة المتصلة بالإنسان والواقع، في أفريقيا المسلمة، بعيدا عن إسقاطات المنهجية المعرفية الغربية واتجاهاتها المتحيزة.

            التالي السابق


            الخدمات العلمية